الثورة – وعد ديب:
في ظلّ التحديات التي تواجه الاقتصاد السوري، لم يعد الاستقرار النقدي هدفاً تقنياً يُعالَج بإجراءات محدودة، بل غدا ركيزة أساسية لأي مسار تنموي مستقبلي.
ذلك أن الثقة بين المواطن والنظام المالي، والتي تضررت بفعل سنوات من الانكماش والقيود على الحوالات وتذبذب سعر الصرف، باتت مفقودة، ما أضعف فعالية السياسات النقدية وأفقد القطاع المصرفي دوره الحيوي.
الخبير الاقتصادي عبد العظيم المغربل يؤكد في حديثه لـ”الثورة” أن المدخل الحقيقي للاستقرار يبدأ بإعادة بناء هذه الثقة، من خلال سياسة نقدية مستقلة ومتكاملة، ترتكز على تعزيز احتياطيات النقد الأجنبي، تنشيط التصدير والتحويلات، وضبط عجز الموازنة بما يقلل من الضغوط التضخمية.
ويشدد على أن الأمر لا يتعلق بإجراءات ظرفية، بل بإعادة هيكلة المنظومة المالية والمصرفية، بما يشمل تحديث البنية التكنولوجية، وتطوير أدوات الإقراض لتصبح أكثر مرونة وعدالة، ولاسيما لمصلحة المشروعات الصغيرة والمتوسطة.
فاستعادة الثقة لا تنفصل عن إصلاح شامل وعميق، يعيد للقطاع المصرفي مكانته كوسيط مالي فعال، ويضع الأساس لتوازن نقدي مستدام، يعزز النمو ويعيد التوازن للاقتصاد الوطني.
وبين الخبير المغربل أنه اليوم، المطلوب ليس فقط إجراءات تقنية بل نهج اقتصادي شامل، يبدأ من استعادة استقلالية السياسة النقدية، وتعزيز احتياطيات النقد الأجنبي عبر أدوات متعددة، منها تنشيط التصدير، وتشجيع التحويلات الخارجية، وربطها بمزايا تحفيزية، إلى جانب ترشيد الإنفاق العام والحد من التمويل بالعجز، وهو ما يستنزف العملة ويولد ضغوطاً تضخمية على المدى القصير.
وبرأي الخبير المغربل، يمكن للمصرف المركزي أن يعتمد سياسة سعر صرف مرنة مدروسة توازن بين الاستقرار والتحفيز، وتخفف من الفجوة بين السعر الرسمي والسوق السوداء.
أما على المدى الأطول، فلا يمكن فصل الثقة بالقطاع المصرفي عن إصلاح المنظومة القانونية والرقابية، وتطوير البنية التكنولوجية للقطاع المصرفي بما يسمح بتقديم خدمات موثوقة وشفافة للمودعين والمستثمرين، وخاصة للمغتربين الذين يشكلون رافعة مالية أساسية يجب كسبها لا مجرد انتظار دعمها.
القروض ضعيفة
وعلى منحى آخر، ورداً على سؤال “الثورة” عن سياسة الإقراض المتبعة، وهل يمكن أن يعاد النظر بها لتناسب متطلبات المرحلة القادمة؟.
أجاب الخبير الاقتصادي بالنسبة لسياسة الإقراض، فإن الواقع يُظهر أن القروض القائمة ضعيفة وما زالت تفتقر إلى التوجه التنموي الحقيقي، وتُدار ببيروقراطية عقيمة لا تتناسب مع طبيعة المرحلة التي تتطلب مرونة وابتكاراً، لذلك، فإن إعادة النظر في سياسة الإقراض- والكلام للمغربل- باتت ضرورة، ليس فقط لتحفيز النمو بل أيضاً لإعادة توزيع الموارد بطريقة أكثر عدالة وفعالية.
ويعتبر أن المرحلة القادمة تستوجب نماذج تمويلية جديدة، تُركز على المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتمنح الأفضلية للقطاعات الإنتاجية كالزراعة والصناعة والخدمات الرقمية، كما تحتاج إلى أدوات تمويل غير تقليدية مثل التمويل الإسلامي، وصناديق المخاطر، وآليات ضمان القروض التي تخفف من عبء الضمانات الصعبة على صغار المستثمرين.
وينوه بأنه لا يمكن أن تستقيم السياسة النقدية دون قطاع مصرفي شفاف ومتجدد، ولا يمكن لهذا القطاع أن يستعيد دوره من دون إصلاح جذري في فلسفة الإقراض وآليات إدارة السيولة والرقابة، وهو ما يجب أن يكون في صلب أي خطة وطنية للإنعاش الاقتصادي في سوريا.
لاشك أن استعادة الثقة بالنظام المالي السوري، كما أكد الخبراء، ليست مجرد خطوة تقنية بل هي مشروع استراتيجي شامل يتطلب رؤية بعيدة المدى وعملاً جماعياً على مختلف الصعد.
فالنجاح في هذا المسار يعتمد على تنفيذ سياسات نقدية مستقلة، تعزز الاستقرار النقدي وتعيد تفعيل دور القطاع المصرفي، عبر تحسين أدوات الإقراض وتطوير أنظمة الرقابة والبنية التكنولوجية.
إن البنية المالية القوية ليست خياراً بل ضرورة لتحقيق التنمية المستدامة في سوريا، وضمان مستقبل اقتصادي مستقر للأجيال القادمة.. ولعل المراحل القادمة، مع تضافر الجهود الوطنية والإصلاحات العميقة، ستكون بداية لمرحلة جديدة من التحدي والتعافي، تقود الاقتصاد السوري نحو بر الأمان والنمو المستدام.