الثورة – لميس علي:
“الكلام ممكن أن يفتن، ولكنه لا يضيء الطريق كما تفعل الأفعال”، تُنسب هذه المقولة لألبير كامو وتذكّر بكتابه “الظل والضياء”.. فالكلام غالباً ما يكون مجرد ظل، بينما الفعل هو الضوء الحقيقي.. وبالتالي يشترط بالكلمات أن تتبع الأفعال، هي ظلّ يلاحق الفعل.
لكن ما يحدث أن الكلام يغدو في حالاتٍ ومواقف كثيرة هو ما يفتننا.. لدرجة ننسى، تحت تأثيره، أهمية الفعل.
تخدّرنا الكلمات، لحين، لكن لا يُفترض أن تسرق وعينا لضرورة تحوّلها لأفعال واقعية.. وعدم تحقّقها عملياً يعني أنها كانت صادرة عن أفعال خشنة بأساسها.
الخشونة تتمثل بتناقضاتٍ تتأتى بين كلام يفتن، الذي هو فعل محصور بكونه منطوقاً فقط، لم يتحوّل ويترجم “لحركة”، وما بين أفعال لم تُفعل تستند لضمير “هو” الغائب عن الفعل، أو أفعال ناقضت الكلام الذي كان توطئةً لها..حينها تغدو الكلمات وما يصدر عنها من وعود وأحلام، مجرد خيالات لأفعال أصلها ظواهر صوتية “كلامية”، يعني “لعي” بالعامية.
وكما يتبع الظلُّ الضوءَ، من المنطقي أن تتبع الكلماتُ الأفعالَ.. أن تكون لاحقة لها، ونتيجةً طبيعيةً لحدوثها.. تماماً كما ذكر “كونفوشيوس”: “الرجل الأسمى يفعل قبل أن يتكلم، ثم يتحدث تبعاً لما فعله”.
ماذا إن كانت الخشونة صادرة عن أصل عاطفي..؟ أليست الأقسى والأخطر..؟ فأشد الأفعال وقعاً لا تصرخ، إنما تتم بخفةٍ وبملمسٍ ناعم. بمعنى: الكلام كان فاتناً لغايات غير صريحة وليست حقيقية، تتذرّع بذرائع الحبّ والغرام.
في مثل هكذا حالة لا يغدو الكلام ظلاً فحسب، بل وسيلة تزرع الأوهام بدلاً من الأحلام، وهنا مكمن “خشونة” لا تُلحظ للوهلة الأولى، تبقى مخبأة لحين الاختبار، أي حين الفعل الذي لن يتحقق، وكأننا نتحدث عن “ازدواجية الحضور”.. البعض يتقن تمويه حضوره بين كلام فاعل بقوة وبين فعل غائبٍ أيضاً بقوة.
تناوب الحالين يؤدي إلى خشونة الفعل الناتج عن مجرد ظهورهم وليس حضورهم، وكأنما هناك شكل خارجي للفعل قبالة جوهره الحقيقي، فهل تكفي نعومة الملمس حتى تمنحنا الأمان من خدوش أفعال خشنة..؟ أحياناً.. نلتصق بالنعومة حتى لو كانت ظاهرية فقط، لأننا نعتقد أننا نحمي أنفسنا من خشونة الواقع، نغفل أنها خشونة ناشئة ممن نحب، وليست من واقع حياة..
إذاً حكمنا على خشونة الأفعال يرتبط بمن أتى بهذه الأفعال أو بمن لم يقم بها أصلاً.. كيف صدرت.. وما هو أصلها..؟ وكأننا نطلّ إلى ما وراء الفعل، إلى (النية/ الغاية/ القصد).. كيف لنا أن ندرك النوايا والمقاصد حين تختبئ وراء أقنعة الكلمات الملوّنة بصدق نبرتها..؟ الصدق الحقيقي هو صدق الفعل، لأنه الأثر الأبقى والأكثر ديمومةً، فالفعل هو البعد الواقعي الأصدق الذي يطغى على ضجيج ذاك الكلام “الذي يفتن”.. تماماً كما وصفه “رالف والدو إيمرسون”: “ما تفعله يتحدث بصوتٍ عالٍ بحيث لا أستطيع سماع ما تقوله”.