الثورة – حسين روماني:
انبعث من خشبة مسرح الحمراء برد كانون القارس في قلب تموز اللاهب، حملته سينوغرافيا قاتمة وأحداث غارقة بتفاصيل علاقة على شفير الانهيار، في مسرحية “آخر ليلة أول يوم”، تأليف جوان جان، وإخراج وتمثيل رائد مشرف الذي شاركته البطولة عهد ديب، وجد الجمهور نفسه داخل بيتٍ بارد يحتضر فيه زواج، لكن لا يخمد فيه الحب.
حوار لا يعرف النهاية
يقضي وسام ومنى في ليلة ذكرى زواجهما الأخيرة سويعات ما قبل الطلاق، محاصرين بمكانٍ واحد، وذاكرةٍ مشتركة، وسلسلة من الأسئلة المؤجلة، الحوار ينفجر تارةً بصوت عالٍ مشبع بالغضب والعتب، وينخفض تارةً أخرى إلى وشوشات متعبة من فرط الحب والخذلان، فالنص الذكي الذي كتبه جوان جان والمشبع بتفاصيل الحالة العائلية بخطوطه البسيطة والعميقة، يُدخلنا في تشريح لعلاقة تنهار على مهل، من دون أن تسقط، وبينما يحفر رائد مشرف كمخرج في التفاصيل البصرية والنفسية للمشهد.. يمنح نفسه كممثل مساحات متوازنة من الحضور، تقابلها عهد ديب بأداء ناضج، ناعم وخشن في آنٍ معاً، يوصل هشاشة الشخصية من دون افتعال.
فيما بدت السينوغرافيا كأنها امتداد لحالة الزواج نفسه جدران باردة، إضاءة متقطعة، وساعة معلقة تُذكرنا بأن النهاية قريبة، أو لعلها بداية جديدة، أما تصاعد الإيقاع الدرامي فحُكم بدقة؛ لحظات الانفجار لم تطغ على همسات الحنين، والمونولوجات تقاطعت بسلاسة مع الجدالات الحادة، ليأتي المشهد الختامي بعد عامٍ على الطلاق، فيترك الباب مفتوحاً، إذ نرى الزوجين في ليلة ذكرى زواجهما وقد عادا ليبدأ الخلاف من جديد، لا كوداع نهائي بل كاعتراف دائم بأن الحب، مهما تعب لا يموت بسهولة، فالعرض ليس عن فشل العلاقة، بل عن مقاومتها، عن الشقوق التي يدخل منها الضوء، والبرد أيضاً، ودافئ رغم كل ذلك البرد.
لم يكن وليد اللحظة
أتت هذه التجربة التي جمعت الكاتب جوان جان مع المخرج والممثل رائد مشرف بعد سنوات طويلة من المعرفة والمشاهدة، وعنها قال لنا جان: “معرفتي برائد مشرف كممثل ومخرج مسرحي ليست وليدة اللحظة فأنا متابع لمسيرته المسرحية منذ سنوات طويلة، عندما كنا نلتقي في المهرجانات المسرحية التي كانت تقام في المحافظات السورية، إذ كان يشارك في هذه المهرجانات بشكل دائم وكنت أنا عضو في لجان التحكيم فيها، وبالتالي عرفت رائد مشرف كمخرج وممثل مسرحي عن قرب ولو لم أكن أثق بإمكانياته لما توصلنا إلى صيغة تعاون مشترك في هذا العمل”، ويتابع حديثه لـ”الثورة” بالوقوف أمام التعاون مع الفنانة عهد ديب: “ممثلة مسرحية أكاديمية وعلى درجة عالية من القدرة على الإمساك بالشخصية التي تسند إليها وهو ما تجلى بشكل واضح في العرض”.
تجربة لن تتكرر
من “وحشة” المقتبسة عن تشيخوف عام 2018، إلى “فوضى” (2005 – 2019) التي لامست وجع المرأة، ثم “المبارزة” (2024) في مهرجان المسرح الجامعي، بنى رائد مشرف مسيرته الإخراجية على نصوص تنحاز للإنسان وخرائطه النفسية، في “آخر ليلة.. أول يوم”.
يخوض مشرف تجربة مزدوجة كممثل ومخرج، يؤدي شخصية “وسام” رئيس قسم الممرضين الذي يراه الناس طبيباً وينادونه بهذه الصفة حتى صدّق أن أحلامه تحققت، يخون زوجته ويحبها في آنٍ، رجلٌ يقف بين عينٍ بصيرة تريد أن تمنح كل شيء وبكل حب، ويدٍ قصيرة كبلتها الحياة، يؤكد لنا: “لن أكرر الجمع بين الإخراج والتمثيل فالمهمة شاقة والمسؤولية كبيرة”، يركّز مشرف في رؤيته على الممثل والنص، مبتعداً عن الاستعراض الإخراجي: “أشتغل على البساطة، وعلى اللحظة الصادقة، النص هو المركز، والممثل أداته الأهم”، ورغم محدودية الأدوات، يشيد بدور مديرية المسارح والموسيقا: “قدّموا كل ما بوسعهم، ولو توفرت إمكانات أكبر، لأضفنا بعداً بصرياً أوسع”، وعن الرسالة، يختصرها بوضوح: “ذهبنا نحو وجع الناس، وحاولت أن أكون منصفاً للمرأة، قدر ما استطعت.”
منى تشبهني والمسرح مكاني
قدّمت عهد ديب شخصية “منى” الكاتبة التي حلمت بضوء خافت من عود كبريت، لكنه انطفأ سريعاً، تماماً كما انطفأت أحلامها، وتقول: إن منى ليست غريبة عنها: “تشبهني كثيراً، وتشبه أغلب النساء اللواتي حملن أحلاماً كبيرة، لكن لم تسعفهن الظروف، ولا الشريك.. تشبهني في شغفها بالمساواة، في صدقها، وتضحياتها”.
وبعد سنوات من الغياب، تعود ديب إلى المسرح الذي تعتبره بيتها الأول: “أنا خريجة المعهد العالي للفنون المسرحية، وهذا المكان بالنسبة لي المفضل رغم كل ما أبعدني عنه، حتى أنني في سنوات دراستي لم أكن أريد سوى الوقوف على خشبته وأداء العديد من الأدوار، ولكن الظروف الماضية حالت بيني وبين تلك الأمنية”، تصف تجربتها في هذا العرض بالتحرر من الصورة النمطية التي حصرتها أدوار الشاشة فيها: “منى حررتني، صحيح أنني لم أنقطع عن المسرح بالكامل، عملت في ورشات ووقفت على مسرح طفل، لكن هذه التجربة أعادت صقل أدواتي”.
من قلب الواقع امتلأت الصالة بالعديد من أهل الفن وجمهور المسرح، وعبّر لنا الفنان محمد خاوندي عن إعجابه بالعرض الذي رآه، واصفاً إياه بأنه يذكّره بأجواء عروض تشيخوف: “العمل يحمل نفس تشيخوفياً واضحاً، وهذا ليس مستغرباً من رائد مشرف، يعرف كيف يبني الشخصية ويضبط الإيقاع، ويشتغل على التفاصيل بدقّة، من الديكور إلى الأداء”.
وأشاد بأداء عهد ديب، واصفاً إياها بالممثلة المتمكّنة: “هي خريجة معهد، وأدواتها واضحة، وإلقاؤها متزن”، أما عن تولّي مشرف الإخراج والبطولة معاً، فقد علّق: “كنت أفضل أن يؤدي أحد آخر دور البطولة ليتمكّن رائد من مراقبة العمل كمخرج بشكل كامل، لأن المهمتين معاً مرهقتان”.
وختم خاوندي حديثه معنا بالقول: “النص حيوي وممتلئ بالتركيز، جوان جان كتب من نبض الحياة اليومية، وأنا سعيد بعودة المسرح وأتمنى أن تكون الأيام القادمة لهذه الخشبة أفضل.”