الثورة – حسين روماني
نافذة الفنان لم تعد في أدواره فحسب، ففي زمن تتكاثر فيه الشاشات أكثر من القصص يطلّ علينا من أبواب يومياته المفتوحة على خصوصيته، ذوقه، مزاجه، وحتى لعثماته العابرة، الصورة التي تُرسَم له لم تعد تُصنع في الكواليس، بل على العلن، وسط جمهور لا يكتفي بالمشاهدة، بل يحاكم ويصنّف ويضع النقاط على الوجوه.ما من مهنة تتقلّب صورتها بين التكريس والتسخيف مثل مهنة الفنان، هو في لحظةٍ قد يغدو رمزاً وطنياً، وفي أخرى مادةً لسخرية فيسبوكية رائجة، وهذا التحوّل لا يجيء من فراغ، بل من تراكبٍ معقّد بين ما يختاره الفنان لنفسه، وما ترسمه له الدراما، وما يعيد الإعلام تدويره، ثم ما يصبّه الجمهور في وعائه النهائي الحب أو الرفض.
من يصنع صورة الفنان؟
في المشهد الثقافي السوري، لا تزال صورة الفنان محط جدل وتأويل، تتنازعها أدواره الدرامية، حضوره الإعلامي، تفاعلاته على مواقع التواصل، وموقعه من القيم السائدة، غير أن ما يبدو كصورة “نمطية” لا يُخلق من فراغ، بل هو نتاج مسارات متشابكة، تبدأ من النصوص، وتمر بالكاميرا، لتستقر في أذهان الجمهور وتنعكس لاحقاً على الإعلام.الناقد الفني جوان ملا يرى أن الإعلام لا يخلق الصورة النمطية، بل يعيد إنتاجها وتكريسها، يقول لـ”الثورة”: “الإعلام لا يصدر الصورة، بل يكرّسها”، مشيراً إلى أن القوالب التي يظهر فيها الفنانون في المقابلات والحوارات لا تنشأ من فراغ، بل تنبع غالباً من أدوارهم نفسها، فالفنانة شكران مرتجى تُسأل غالباً عن “الهضامة”، لأنها رسّخت في وعي الجمهور عبر أدوارها الكوميدية، وكذلك الراحلة حنان اللولو كانت تُربط بالحزن والتعاسة، لأنها وقفت بجانب مواقف مليئة بالأسى بعد سلسلة من ضحكات الكوميديا، هكذا، تصبح الدراما هي التي تصدر القالب، والإعلام يلتقطه ويعيد تدويره، ليعزّز ما هو موجود سلفاً، دون أن يجرؤ غالباً على كسره أو مساءلته.
الفنان يقف أمام مرآته السحرية
في عالم اليوم، لم يعد الفنان رهين المنصات التقليدية، فلكل فنان “منبره” الخاص، كما يقول الملأ، عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت نافذته المباشرة للجمهور، ومن خلالها، يصدر صورته بنفسه فيرقص ويغني، يعلّق على السياسة ويروي تفاصيله الشخصية، ولذلك، فإن الجمهور بات يحكم على الفنان ليس فقط من خلال أدواره، بل من خلال “الشخصية” التي يصدرها عن نفسه، البعض قادر على الفصل بين ما هو فني وما هو شخصي، لكن كثيرين لا يستطيعون، وهنا تظهر الإشكالية: هل ما ينشره الفنان هو حقه في التعبير، أم مسؤولية تجاه جمهوره وثقافته؟.
حرية الفنان بين التمرّد والذوق العام
لا ينكر جوان ملا حق الفنان في التمرّد، بل يرى فيه ضرورة أحياناً، لكنه يضع له ضوابط أخلاقية وجمالية، فالفنان، في رأيه، يجب أن يكون واجهة حضارية لمجتمعه، لا أن يستخفّ بذائقة الناس أو يبتذل حضوره باسم الحرية، “هو حر، نعم، لكن عليه أن لا يشذّ عن السكة”، يقول مؤكداً إن الخروج على التقاليد يجب أن يكون بطريقة ذكية، لا صادمة، تحافظ على احترام الناس من دون أن تنكر حرية الاختلاف، وهنا يبرز التوازن المطلوب، الفنان ليس خطيباً شعبياً، لكنه أيضاً ليس شخصاً عادياً تماماً، حضوره علني وصورته تمثل شريحة واسعة من الناس أو على الأقل تؤثر فيهم، ولذلك فإن “مسؤوليته ليست أخلاقية فقط، بل جمالية أيضاً”، كما يُفهم من مجمل الطرح.
أدوار وجمهور ثم إعلام
يختصرملا ترتيب صناعة صورة الفنان كما يلي: “الفنان أولاً، فالأدوار التي يؤديها، ثم الجمهور الذي يقرر أن يحبّ أو يرفض، وأخيراً الإعلام، الذي يلتقط هذه العوامل الثلاثة ويعيد تقديمها بصيغة جماهيرية”، ويختم بالقول: “الإعلام لا يخلق الفنان، بل يلمّ ما يُنتَج من خارجه، ويصبّه في عقولنا”، وحين نعرف هذا الترتيب، نفهم لماذا تُعاد بعض الصور حتى التكرار، وتُختزل شخصيات فنية كاملة في نمط واحد، الفنان يصدر نفسه، الدراما تؤطّره، الجمهور يختار، والإعلام يصوغ.هكذا، في دوامة الصورة، لا يمكن تبرئة أحد ولا اتهام أحد لوحده. الجميع شركاء: الفنان في اختياره، الدراما في كتابتها، الجمهور في استقباله، والإعلام في تضخيمه. والصورة النمطية، في النهاية، ليست قدراً، بل حالة يمكن تجاوزها… فقط حين يريد الفنان أن يرى نفسه خارج الإطار.