الثورة – سهيلة إسماعيل:
يعتبر مارك هونيادي أستاذ الفلسفة الاجتماعية والأخلاقية والسياسية (الجامعة الكاثوليكية في لوفين) في كتابه الصادر عام ٢٠٢٣ بعنوان: (العصر الثاني للفرد من أجل انعتاق جديد) أن الفرد في العصر الحديث يولد وهو موعود بالحرية، لكنه يعيش بعد الولادة في كوكب مهدد بكل أنواع استعباد الحريات.
وضمن هذا الإطار يحاول جعل الفلسفة التطبيقية بمثابة نظرية نقدية للفردية المعاصرة، كما يتم التعبير عنها على وجه الخصوص في الليبرالية، بعد أن درس مؤخراً الثورات التكنولوجية المعاصرة والمستقبلية في كتاب زمن ما بعد الإنسانية (2018) واقترح نظرية أصلية للثقة في كتاب “في البداية هي الثقة” (2020)، من خلال هذا العمل، وضع مارك هونيادي لنفسه مهمة تعميق الأساس التاريخي لتحليله للمجتمعات المعاصرة من خلال وصف تطور تأثير أخلاقيات الحقوق فيها، ومن منطلق اهتمامه الجدير بالثناء بعدم تقييد نفسه بالتحليلات النظرية، يقترح بعد ذلك استخلاص نتائج ملموسة من ملاحظاته.
أسلوب مارك هونيادي الواضح، والموجز، والمباشر والملهم يأسر المراجع متنوعة والأمثلة مختارة بعناية، باختصار، لا يمكن للقارئ أن يظل غير مبالٍ بنص جذاب وطموح.
لا ينوي مارك هونيادي البقاء مع التجريدات ويقترح غاية ملموسة (ص 122-123) للهروب من اسمية الإرادة، علاوة على ذلك، فإن التحدي الذي يواجهه هو تجنب الخطاب المتخلف أو الرجعي الذي يرى في استعادة المثل العليا للماضي السبيل الوحيد للهروب من الهيمنة السمية، مثل هذا “النمط الحنين” الذي ينتقده في ميشيل فيلي وأندريه دي مورالت، وبصورة أدق، فإن المسألة بالنسبة إليه ليست إلغاء أخلاقيات الحقوق، بل إزالة أولويتها والهروب من سيطرة إطارها.
إن واقعية الحل تتجلى من خلال ضمانة سياسية ومؤسسية، ولكنها لا تدعي تفسير كل تفاصيل تنفيذه، إنها في المقام الأول مسألة تحديد الاتجاه، توانى عن المخاطرة بهدف عملي ومتفائل.
وبعد أن اقترحنا سلسلة من الفروق الدقيقة لإعادة بناء تاريخ العقليات التي يبنيها العمل ويلخصها (الجزء الثالث)، فإننا سوف نشير إلى العيوب التي يبدو أن مفهوم الروح باعتبارها اعتقاداً شائعاً يظهرها (الجزء الرابع).
فهو لا يدعي أنه يقترح أي شيء جديد حقاً.. إنه ببساطة يعتزم إعطاء مكانه “لما كان موجوداً دائماً، لكنه يجد نفسه مضغوطاً، ومقموعاً، ومختنقاً، ومخفض القيمة، ومدفوعاً جانباً.
إنه يدعونا إلى الانتقال من أخلاقيات الفرد وحقوقه إلى أخلاقيات الروح التي تفتح عصراً ثانياً للفرد، ويبدو أن “الروح” تشير بالنسبة للمؤلف إلى الحياة العقلية والروحية للإنسان كما يرتبط بنفسه، وبالآخرين، وبالعالم.
“إن “أخلاق العقل” تهدف بالتالي إلى التفكير في التصرف فيما يتعلق بالعقل، ولكن أيضاً إلى تربيته، و”إعادته إلى حياته وغاياته الخاصة”.
إن الروح الإنسانية- وليس فقط الفرد المحيط بحقوقه الفردية- لها نظامها البيئي الخاص الذي يجب حمايته، من خلال السماح لها بالتطور وفقاً لوسائلها الخاصة “البيئة التي تستحم فيها الروح تحدد حياتها الروحية”.
لكن هذه البيئة تشهد تحولاً مع ظهور التكنولوجيا الرقميّة، التي تذهب إلى حد المساس بالموارد الأساسية للعقل، إن الأمر يتعلق إذاً بتنفيذ ما أنشأته الأمم المتحدة في عام 1982 بالنسبة لقاع البحار العميق، والذي، مثل العقل، أفلت من كل التشريعات: إعلانه “التراث المشترك للإنسانية”.
في “بيئة العقل” هذه يتم تشجيع الجميع على الحفاظ على العقل، كما يرغب المرء في القيام به مع الطبيعة، في “فهم جديد للحدود”، لأنه تراثنا المشترك- ما يسميه هونيادي “قناعة مشتركة”، وهذه الفكرة خاصة به، في حين أن التأمل الأخلاقي والفلسفي حول مفهوم “التراث المشترك للإنسانية” “خارج حدود المناقشة حول إطاره القانوني”، يشكل موضوعاً كلاسيكياً في فترة ما بعد الاستعمار منذ ستينيات القرن العشرين، في مواجهة “المشاعات التجميعية” التي تعج بها أخلاقيات الحقوق التي يقارن نموذجها بين الإرادات الفردية.
يعارض مارك هونيادي “المشاعات الإدانة” التي توجه العمل الإنساني “من الداخل”، من خلال اقتراح غاية تتجاوز مجموع الإرادات الفردية، وبناء على ذلك، وبإلهام من لجان الأخلاقيات الحيوية، سيكون من الضروري إنشاء “مجلس لحماية العقل”، والذي من شأنه، من دون رقابة، أن يسمح للعقل بالتطور من تلقاء نفسه من خلال “إمكاناته التي لا تنضب للواقع المضاد “الميل إلى تجاوز الحقيقة”، وستكون هذه المؤسسة “ابنة عم سلطة قاع البحار” مسؤولة عن حماية العقل ضد الهجمات، على سبيل المثال، من قبل عمالقة الرقمية وتقنيات العقل الأخرى.
يضع هونيادي هذا الاقتراح في إطار تأمله لعمله السابق حول الثقة والذي يحدد علاقة وجودية مع العالم غير الاسمي.
في العلاقة الأصلية القائمة على الثقة، تكتشف الإرادة ما يفلت منها، ويتم إسقاطه خارج السيطرة والحساب اللذين يشكلان العقلانية الإسمية، وبالتالي فإن الإرادة الفردية سوف تعيد اكتشاف حدودها من خلال منح نفسها المؤسسات الكافية لتعديل الظروف المعاصرة لوجودنا، والتي “تتطلب تدابير عالمية ومحدودة”، يوضح هونيادي أن البشريّة سوف تنفتح بعد “سبعة قرون من الإسمية المنتصرة”، على عصر واقعي، يتميز بإعادة اكتشاف مزدوجة للحدود – حدود ظروف وجودنا وحدودنا الفردية.