الثورة – جهاد اصطيف:
بين مطالب السكان بالتنظيم وحق أصحاب المكاتب في تأمين لقمة العيش، تتفاقم في مدينة حلب إشكالية انتشار مكاتب بيع السيارات وسط الأحياء السكنية، ما حّول أرصفة وشوارع بعض المناطق إلى “معارض مفتوحة” خارجة عن كل ضوابط التخطيط الحضري، ورغم محاولات مجلس المدينة والجهات المعنية احتواء الظاهرة، إلا أن الانقسام الحاد في الآراء، وغياب البنية التحتية الملائمة في المناطق البديلة، يعيدان المشكلة إلى المربع الأول.
انتشار عشوائي ومشهد فوضوي
يصف سكان أحياء كـ”السريان والموكامبو والعزيزية” المشهد اليومي أمام محالهم بالفوضوي، نتيجة تكدس السيارات المعروضة للبيع على الأرصفة والطرقات، ما يعوق حركة المرور والمشاة ويشوه المنظر العام للمدينة.
يوضح أبو محمد، تاجر، أن الزبائن لا يستطيعون حتى الاقتراب من محله، بسبب السيارات المتراكمة، الأرصفة مملوءة، مضيفاً: الشارع لم يعد لنا.
فيما تتساءل أم جميل، المقيمة في حي السريان، عن سبب التأخر في نقل هذه المكاتب إلى منطقة الراموسة المخصصة لذلك، لافتة إلى أن هذه المناطق السكنية لم تُنشأ لتكون معارض سيارات، والوضع أصبح غير مقبول في أحياء يفترض أنها راقية.
حملات رقابية وفعالية محدودة
رداً على تزايد الشكاوى، نفذ مجلس مدينة حلب مؤخراً، بالتعاون مع قسم المرور، حملة ميدانية، تم خلالها تشميع عدد من المكاتب المخالفة وحجز سيارات مركونة على الأرصفة. وصرّحت الجهات المعنية بأن الحملة تهدف إلى إعادة تنظيم الحركة المرورية وتحسين المظهر العام للمدينة.
لكن وعلى الرغم من هذه الإجراءات، عاد بعض أصحاب المكاتب للعمل بعد أيام، ما أثار تساؤلات حول استمرارية الرقابة، ومدى فاعلية الحلول الجزئية التي لا تترافق مع خطط متكاملة.
من جهة أخرى، يعبر أصحاب مكاتب السيارات عن امتعاضهم من التهميش في الخطاب الرسمي، مؤكدين أنهم لا يعارضون التنظيم، لكنهم يطالبون بحلول واقعية.
يقول أبو أحمد، صاحب مكتب سيارات: الراموسة بعيدة، ولا توجد إنارة أو صرف صحي، والشوارع مدمرة، كيف يطلب منا الانتقال من دون تأمين الحد الأدنى من البنية التحتية؟.
وأضاف آخر: حتى الترخيص نواجه فيه عقبات، والمكاتب المرخصة داخل المدينة تعامل بنفس الصرامة، نحتاج لحوار وتخطيط، لا قرارات فجائية.
المشروع المؤجل
تعد منطقة الراموسة، وفق خطط التنظيم، الموقع الرسمي المخصص لمكاتب بيع السيارات منذ سنوات، لكن الواقع فيها مختلف تماماً. فالمنطقة تعاني من نقص في الخدمات: أرصفة محطمة، غياب الإنارة العامة، شبكات مياه وكهرباء غير مكتملة، وانعدام الربط بوسائل النقل العامة، ما يترك أصحاب المكاتب في حالة من ” التيه” بين التهديد بالإغلاق ومكان بديل غير مؤهل.
جاءت حملة مجلس المدينة، حسب المسؤولين، بعد سلسلة من الإنذارات المتكررة، والهدف المعلن هو إعادة الانضباط المروري وتطبيق النظام، لكن العديد من الأصوات ترى أن الإغلاق المفاجئ لم يعد حلاً ناجعاً، بل يعمق الأزمة الاقتصادية لأصحاب المكاتب ويؤدي إلى تفاقم البطالة.
ويرى أحد سكان حي الشهباء أن المشكلة الحقيقية تكمن في غياب رؤية متكاملة، المطلوب ليس فقط الإزالة، بل نقل منظم ومدروس، يترافق مع دعم مادي وتقني ومهني لأصحاب المكاتب.
هل تشكل انفراجة؟
في تطور جديد، أقر محافظ حلب، المهندس عزام الغريب، مجموعة إجراءات لتنظيم القطاع، أبرزها نقل جميع المكاتب إلى منطقة الراموسة، ومنح مهلة 15 يوماً للمكاتب المرخصة داخل المدينة للالتزام بشروط العرض “سيارتان فقط أمام كل مكتب”، وإعطاء مهلة شهر للمكاتب غير المرخصة لنقل سياراتها إلى مكاتب مرخصة خارج المدينة أو إلى الراموسة، والسماح بفك الحجز عن السيارات المباعة بشرط تقديم توكيل رسمي من المالك أو حضوره شخصياً.
ورغم أهمية هذه القرارات، فإن التحدي الأكبر يبقى في تنفيذها على الأرض، وتوفير بيئة حقيقية لانتقال منظم وعادل، لا يضرب أرزاق الناس ولا يعيد الفوضى إلى نقطة البداية.
التنظيم واجب
قضية مكاتب بيع السيارات في حلب تُظهر مجدداً مدى تعقيد العلاقة بين التنظيم العمراني والعدالة الاقتصادية.. فالمواطن يريد مدينة نظيفة ومنظمة، والتاجر يريد كسب رزقه بكرامة، والدولة مطالبة بإيجاد توازن حقيقي يراعي مصالح الطرفين، ولعل الانتقال إلى منطقة الراموسة قد يكون خطوة سليمة، لكن نجاحها مرهون باستكمال البنية التحتية بسرعة، وتنظيم العملية تدريجياً وبشفافية، فمن دون رؤية شاملة تدمج فيها متطلبات الاقتصاد مع ضرورات التنظيم، ستبقى “معارض السيارات العشوائية” مشهداً يومياً يعكس الفوضى لا القانون، والارتجال لا التخطيط.