الثورة – ثورة زينية:
دمشق أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ.. مدينة لا تُقاس بعمرها فقط، بل بروحها التي تسكن تفاصيل الحجر، وعبقها الذي يتنفس من ذاكرة الحضارات.. لقرونٍ طويلة ظلت هذه المدينة رمزاً للأصالة، ومتحفاً حياً للتاريخ، تمشي فيها الأزقة على وقع الخطا القديمة، وتروي الجدران قصصاً من ألف عام وأكثر.
واليوم، وفي خضم التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم.. تقف دمشق اليوم على أعتاب مرحلة جديدة من تاريخها، تفتح أبوابها لعصر الحداثة ليس بقطع الصلة مع الماضي، بل بإعادة تشكيل الحاضر ليحمل عبق الأصالة وملامح المستقبل معاً، من مشاريع النقل الحضري الحديثة كـ”مترو دمشق”، إلى الأبراج السكنية الضخمة ذات الطابع المعماري المستوحى من التراث، ومن تطوير البنية التحتية إلى الثورة الرقمية.. تدخل دمشق معركة التوازن بين التجديد والحفاظ على الهوية .
إنه ليس مجرد انتقال عمراني أو تقني، بل تحول ثقافي وفكري يرسم ملامح مدينة تسير نحو الغد، بخطا راسخة في الأرض التي شهدت فجر التاريخ.
وجهة عالمية
يقول الخبير في التخطيط العمراني وتحسين الإرث التراثي المهندس ربيع الجمل في حديثه مع صحيفة الثورة: إن كل هذه الاستثمارات التي وقعت اتفاقياتها أو تلك التي لا تزال على طريق التوقيع مستقبلاً يجب أن تخدم الهدف بتحويل دمشق إلى وجهة سياحية عالمية تجمع بين الأصالة والحداثة، مع الحفاظ على طابعها التاريخي الفريد.
إن هذه المشاريع الضخمة تتطلب مواكبتها العمل على تطوير السياحة من خلال دمج الحداثة والتراث، من خلال تصميم مشروع المترو على سبيل المثال بلمسات دمشقية، مثل زخارف إسلامية وفسيفساء وتقنيات ذكية.
وأكد أن وجود الأبراج العملاقة في المدن الحديثة بات موجوداً في كل أنحاء العالم، لكن يجب أن تتوافق هذه الطفرة العمرانية الحديثة مع الطابع التراثي للعاصمة دمشق بشكل عام والمدينة القديمة بشكل خاص.
وأضاف: يجب تعزيز السياحة الدينية والثقافية من خلال إنشاء مسارات إلكترونية باستخدام الواقع الافتراضي، وتنظيم مهرجانات تراثية عالمية.
الاستدامة والتجارب الفريدة
لا شكّ أن إحياء حدائق غوطة دمشق بشقيها الشرقي والغربي هدف ضروري ومهم جداً لضخّ مزيد من الانتعاش لهواء دمشق- حسب الخبير الجمل- ويساهم في إضافة رئات جديدة تساهم في خفض نسب التلوث العالية التي تعانيها نتيجة لتراجع الغطاء النباتي فيها إلى أقل من الربع.
ولفت إلى نقطة اعتبرها الأهم في الحفاظ على هوية دمشق التاريخية والتراثية من خلال تنشيط وإعادة إحياء ورش الحرف اليدوية التقليدية التراثية، كالنقش على الخشب وصناعة البروكار والحفر على النحاس وتطعيم الصدف، لكن كل ذلك سيبقى ناقصاً إن لم يتوافق بالتوازي مع التسويق الذكي الذي يتضمن حملات إعلامية تركز على هوية دمشق التاريخية مع إبراز تناغم الأصالة والحداثة في المشاريع التنموية، يضمن -حسب خبير التخطيط العمراني- تسهيل الوصول الذي ستوفره المشاريع الاستثمارية المجمع تنفيذها وتطوير البنية التحتية للنقل (المطار، المترو) وإصدار تأشيرات سياحية إلكترونية لجذب الزوار واعتماد نظام حجوزات إلكترونية للمواقع الأثرية، وتدريب مرشدين سياحيين متخصصين.
انعكاسات عمرانية
إن تنفيذ الأبراج السكنية الضخمة في دمشق العاصمة، وهو مشروع عمراني كبير يضم عشرات المباني العالية متعددة الطوابق والتي تضم مئات الوحدات السكنية ضمن مجمعات متكاملة تحوي خدمات، مثل مواقف، مراكز تجارية، حدائق، له انعكاسات عمرانية واقتصادية يوضحها لنا المهندس نضال بغدادي- صاحب مكتب هندسي بدمشق وخبير في مجال تخطيط المدن في تصريح لصحيفة الثورة: مثل هذه المشاريع تحرك سوق العمل والقطاعات المرتبطة كالصناعة، النقل، المواد الخام، والتمويل العقاري، موضحاً أن الأبراج تخلق فرصاً استثمارية قد تجذب المستثمرين المحليين والمغتربين، وقد تُسوّق كوسيلة لجذب رؤوس الأموال.
انعكاسات عمرانية
إن تنفيذ مثل هذه الأبراج الضخمة وسط مدينة صغيرة المساحة كدمشق- حسب المهندس بغدادي- له انعكاسات عمرانية وتخطيطية مهمة، فهي استغلال أفضل للمساحة، وفي ظل الازدحام الكبير في دمشق فإن الأبراج تقدم حلاً لتوفير عدد كبير من الوحدات السكنية على مساحة أرض محدودة، وبذلك توفر شغل مساحات كبيرة للبناء، ما يتيح الفرصة لزيادة الغطاء الأخضر، وعدم تعريض الحدائق والمساحات الخضراء للقضم في سبيل البناء عليها، وتشييد المجمعات السكنية، بشرط أن يكون المشروع جزءاً من مخطط تنظيمي واضح، وإلا فقد تنتج عنه فوضى عمرانية أو حدوث خرق لقوانين التنظيم على أن يصاحبها تحديث شبكات البنى التحتية (الكهرباء، المياه، الصرف الصحي، الطرق) كي لا تخلق ضغطاً هائلاً وقد تخلق اختناقات في حال عدم تحديث الشبكات.
وأكد المهندس بغدادي على ضرورة دمج الأبراج ضمن مخطط تنظيمي شامل مع الحفاظ على المساحات الخضراء والمرافق العامة واعتماد الطراز المعماري المحلي الدمشقي في التصميم الخارجي والداخلي.
كثر الحديث عن مشروع مترو دمشق وعما يمكن أن يقدمه لتحسين جودة الحياة في هذه المدينة التي تأخر بها الزمن قليلاً نتيجة ظروف سياسية واقتصادية قاهرة، جعلتها تهرول للحاق بركب التطور والحياة السهلة.
مترو دمشق مشروع حلم منذ ما يزيد عن 43 عاماً، فكيف سيكون انعكاس تنفيذه بعد كل هذه الأعوام الطويلة على حياة الدمشقيين وكل من يرتاد دمشق أو يود العيش فيها مستقبلاً؟.
انعكاسات اقتصادية
الباحث في شؤون التخطيط الحضري في شؤون المهندس رأفت كلاس أوضح أن تنفيذ مشروع مترو دمشق يمكن أن يكون له أبعاد اقتصادية، اجتماعية، بيئية وحتى ثقافية، خاصة في ظل الظروف التي تمر بها سوريا.
ولعل الانعكاسات الاقتصادية هي أبرز الانعكاسات المحتملة يأتي في مقدمتها تحفيز الاقتصاد المحلي، فالمشروع سيوفر فرص عمل مباشرة أثناء البناء (المهندسين، العمال، الفنيين…)، وغير مباشرة لاحقاً (في مجال النقل، التجارة، الخدمات المرتبطة بالمحطات)، كما أن وجود بنية تحتية حديثة للنقل قد يشجع المستثمرين المحليين والأجانب على الدخول إلى السوق الدمشقية بقوة وسيؤمن المترو وسيلة نقل أرخص مقارنة باستخدام السيارات الخاصة، أو حتى بعض وسائل النقل العامة، مما يخفف العبء على المواطنين، فيما ستكون منعكساته الاجتماعية كبيرة لجهة تحسين جودة ونوعية الحياة في دمشق وضواحيها بفضل تخفيف الازدحام، وتسريع التنقل، حيث يمكن أن يتمتع الناس بمزيد من الوقت للراحة أو العائلة أو العمل كما أن تشغيل المترو سيمنح كل فئات المجتمع وسيلة نقل موثوقة، خاصة لذوي الدخل المحدود وبالتالي فرصة الوصول المتساوي للجميع.
تراجع التلوث البيئي
ولعل الأثر البيئي- حسب المهندس كلاس- سيكون الأكثر وضوحاً من خلال تقليل التلوث بالاعتماد الناس على المترو بدلاً من السيارات الخاصة سيقلل من انبعاثات العوادم ويُحسّن جودة الهواء، إضافة لخفض استهلاك الوقود، ويقلل المترو من الاعتماد على المحروقات، وهذا مهم خصوصاً في ظل نقص الطاقة في البلاد.
ويضيف: لاشك أن الانعكاسات العمرانية هي الأخرى ستتضح بشكل كبير من خلال توسع عمراني منظم، فوجود شبكة مترو قد يُشجّع على تخطيط عمراني أفضل، مع توزيع أكثر عدالة للسكان والخدمات، كما سيساهم في المناطق القريبة من المحطات ستشهد ارتفاعاً في قيمتها، مما قد يحفّز على تطويرها وتحسينها.
تحديات كبيرة
وفي المقابل إن التحديات كبيرة لضمان تنفيذ المشروع وفق معايير عالية وبعيدة عن الفساد يشكل تحدياً مهماً كما أن الحفاظ على استمرارية عمل المترو يتطلب كفاءة تقنية ومالية طويلة الأمد.
ويختتم الخبير كلاس: تنفيذ مترو دمشق، سيُحدث تحولاً جذرياً في شكل الحياة داخل العاصمة، ويشكل خطوة نحو تحديث البنية التحتية وإعادة الأمل بتحسين جودة الحياة، لكن نجاحه يعتمد على حسن التخطيط، الإدارة، والدعم الاقتصادي والسياسي.