الثورة – هنادة سمير:
بعمل دؤوب وخطا حثيثة، تعقد وزارة التنمية الإدارية الاجتماع تلو الآخر بهدف الوصول إلى صياغة نهائية لمشروع قانون جديد للخدمة المدنية، يعكس تطلعات الدولة نحو إدارة عامة عصرية تكرس مبدأ الاستحقاق الوظيفي، وتجعل من الأداء المتميز ركيزة أساسية، ويمهد لبنية تنفيذية أكثر مرونة، واستجابة للمتغيرات وتوفر الأدوات اللازمة بأيدي الجهات العامة لتعزيز كفاءتها المؤسسية.
وانطلاقاً من الأهمية الاستراتيجية التي تتسم بها إدارة الموارد البشرية في القطاع الحكومي باعتبارها العمود الفقري الذي يؤثر على جودة الخدمات العامة وكفاءة المؤسسات، تركز الاجتماع السادس للجنة المكلفة بإعداد الصيغة النهائية لمشروع القانون حول هذا المحور حيث وضع المشاركون أساسيات التحول من الإدارة البيروقراطية التقليدية إلى إدارة احترافية تعتمد على معايير حديثة ومرنة تواكب متطلبات العصر. وفي هذا الإطار بين الباحث في الإدارة العامة عماد منصور في حديث خاص لصحيفة الثورة أن إدارة الموارد البشرية ليست مجرد عملية إدارية روتينية، بل هي فن وعلم يتطلب رؤية استراتيجية واضحة تدمج بين الكفاءة، والشفافية، والمسؤولية، مشيراً إلى أن ما نراه في مشروع القانون الجديد هو محاولة واضحة لجعل الموظف الحكومي جزءاً من منظومة متكاملة تحفز الأداء وتضمن حقوق العاملين في آن معاً.
آليات تقييم ومتابعة
ويرى أنه من أهم التحديات التي تواجه الحكومات بشكل عام هي مقاومة التغيير، خاصة في مؤسسات عريقة تعودت على أساليب عمل قديمة، مضيفاً: إن نجاح القانون يعتمد بشكل كبير على مدى قدرة الجهات التنفيذية على تطبيق هذه المبادئ عملياً، والتزامها بمبدأ الشفافية والعدالة، وتوفير برامج تدريبية تأهيلية مستمرة للموظفين. ولفت منصور إلى أهمية الجانب التقني والقانوني بحيث تكون هناك أدوات قانونية واضحة تجبر الجهات الحكومية على تطبيق النظام الجديد، وتضع آليات واضحة للمتابعة والتقييم، مع ضمان حق الموظفين في التظلم والشكاوى، مما يعزز الثقة بين الموظف والمؤسسة.
في استطلاع لآراء عدد من الموظفين في الجهات العامة عبّر بعضهم عن ترحيبهم بمشروع القانون، معتبرين أنه خطوة طال انتظارها خاصة أن القوانين الحالية لا تراعي الأداء الفعلي للموظف، ونحن بحاجة لقانون أكثر عدلاً وإنصافاً بحسب ما قالته الموظفة الإدارية منى الغانم، أما الموظف محمد درويش فأكد على أهمية تأهيل العاملين وتطوير أدائهم بشكل مستمر، باعتباره أساس النجاح والإصلاح الإداري.
الربط بين التقييم والأداء
وفي سياق الحديث عن الكفاءة المؤسسية، أكد الباحث منصور أن الربط بين تقييم الأداء والترقيات هو من العوامل المحورية التي تعزز بيئة العمل الإيجابية. وأضاف: عندما يشعر الموظف أن جهوده تقدر بشكل عادل، فإنه يصبح أكثر التزاماً وحماسة، وهذا يؤدي إلى تحسين جودة الخدمات العامة، وهو الهدف النهائي لأي جهاز حكومي.
ويتابع: إن الانتقال من نظام توظيف تقليدي إلى منظومة إدارة موارد بشرية قائمة على الكفاءة المؤسسية هو خطوة حاسمة لبناء جهاز حكومي فعال وقادر على تقديم خدمات ذات جودة عالية للمواطنين، مبيناً أن الإدارة الحديثة للموارد البشرية تستند إلى ثلاثة ركائز أساسية تتضمن التخطيط الاستراتيجي، تطوير المهارات المستمر، ونظام تقييم أداء عادل وشفاف.
وفيما يتعلق بالتخطيط الاستراتيجي يوضح أنه عملية تحليل دقيقة تضمن وجود الكفاءات المطلوبة في المكان المناسب والزمان المناسب، مع توقع المستقبل والاستعداد له وهي خطوة هامة لأنها تمنع تكدس الموظفين في قطاعات غير فعالة أو نقصهم في قطاعات حيوية.
بالنسبة للتدريب والتأهيل، يؤكد الباحث أن التحدي يكمن في تجاوز البرامج التقليدية إلى بناء برامج تدريبية متطورة تعزز مهارات الموظفين بما يتلاءم مع متطلبات العمل المتغيرة، خصوصاً في ظل التطورات التكنولوجية المستمرة، مشيراً إلى أن تطوير ثقافة التعلم المستمر داخل المؤسسات الحكومية يعزز من قدرات الموظفين ويجعلهم أكثر استعداداً لمواجهة التحديات المستقبلية.
معايير موضوعية
أما بخصوص تقويم الأداء وربطه بالترقية، فيلفت منصور إلى أن هذه الآلية تشكل حجر الأساس في خلق بيئة عمل تحفز على الإنجاز وتحترم العدالة والشفافية، لكن نجاحها يعتمد على وجود معايير موضوعية واضحة وآليات رقابة قوية تمنع التحيز والمحسوبية، مؤكداً أن ربط الأداء بالترقية يعزز روح المنافسة الصحية بين الموظفين ويشجعهم على بذل الجهد لتحسين جودة الخدمات، على أن إنجاح هذا التحول التشريعي يتطلب قيادة حكيمة قادرة على تبني التغيير وإدارته بفعالية، بالإضافة إلى ضرورة إشراك الموظفين في العملية التشريعية والتنفيذية لخلق حس بالملكية والالتزام.
ونوه بأهمية توفير بيئة عمل محفزة تتبنى قيم الابتكار والمبادرة، داعياً إلى اعتماد أنظمة إدارة موارد بشرية رقمية تسهل عمليات التوظيف، التدريب، والتقييم، وتزيد من شفافية الإجراءات، وكذلك ضرورة وجود آليات واضحة لحقوق الموظفين في التظلم والشكاوى، ما يعزز ثقة العاملين في النظام الجديد ويجعلهم شركاء حقيقيين في تطوير عمل المؤسسات.
ويختم الباحث عماد منصور حديثه بالتأكيد على أن الاستثمار في الموارد البشرية ليس مجرد خيار بل ضرورة استراتيجية لبناء دولة حديثة ومستدامة لأن الإنسان هو العنصر الأهم في أي منظومة، ونجاح أي إصلاح إداري يعتمد على قدرته على تحسين قدرات وكفاءات موظفيه، معتبراً أن تطبيق القانون الجديد بجدية سيكون نقطة تحول تاريخية في مسيرة الإدارة العامة في سوريا.
من خلال هذا التحول التشريعي، تُخطو سوريا خطوة مهمة نحو إعادة بناء منظومة الوظيفة العامة على أسس حديثة تستند إلى الجدارة والكفاءة والشفافية، ما يؤسس لإدارة حكومية أكثر مرونة واستجابة للمتغيرات، وقادرة على تحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطنين، ورفع مستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.