الثورة – عزة شتيوي:
ترسم دمشق بدخولها التحالف الدولي لمحاربة “داعش” معادلات سياسية جديدة لها انعكاس كبير على المشهد الميداني الداخلي، وتمحو بهذا الانضمام الرسمي لمكافحة الإرهاب أوهاماً سياسية وعسكرية، خاصة في شمال شرق البلاد، هناك حيث بنت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) قصور الفيدرالية تارة واللامركزية تارة أخرى على رمال المراهنات الدولية المتحركة، والتي بدأت تتبدد مع الإنجازات الدبلوماسية للدولة السورية الجديدة.
ورغم أن اليد السياسية لدمشق مُدت لـ”قسد” فوق اتفاق العاشر من آذار/مارس، إلا أن الأخيرة ماطلت وتعنتت في تطبيق الاتفاق، وذهبت بالمشهد الذي انتظره السوريون لوحدة بلادهم إلى كواليس الانفصال واللامركزية، تارة بالتصريحات وتارات أخرى برفض الاندماج داخل مؤسسات الدولة عسكرياً وإدارياً وخدمياً.
بل إنها – أي “قسد” – تمترست في بعض الأحيان وراء خيار المواجهة العسكرية مع الجيش السوري من بوابة الاستقواء بحلفائها، لكن المشهد انقلب اليوم، وسُحبت كل الذرائع من “قسد” مع انضمام دمشق لدول التحالف، حيث بات شعار مكافحة “داعش” والإرهاب فضفاضاً على “قوات سوريا الديمقراطية”، ولم يعد بإمكانها وضع الحجج الواهية أمام تنفيذ اتفاق العاشر من آذار/مارس.
بل على العكس، بدأ العد التنازلي للمهل الممنوحة من الدولة السورية لـ”قسد” لتنفيذ الاتفاق، وما عدا ذلك فالخيارات مفتوحة أمام دمشق، التي لم تبدِ حتى اللحظة رغبتها بالخيار العسكري.
“قسد” بين الاندماج والعزلة السياسية
دخول سوريا إلى التحالف الدولي من البوابة الأميركية لا يعكس فقط أن دمشق في أقوى موقع للتفاوض لحل جميع الملفات الشائكة في الداخل السوري، وخاصة ملف “قسد”، بل يعكس أيضاً رسائل سياسية أميركية جلّها أن الاتفاق مع الدولة السورية الجديدة يغيّر في المعادلات السابقة، وأن إدارة ملف البلاد يبدأ من دمشق، خاصة أن ما تطرحه “قسد” من تقسيم على أساس اللامركزية لا يلقى ترحيباً دولياً أو إقليمياً، ولاسيما أن دول الجوار تتوجس من إيقاظ النزعات الانفصالية العابرة للحدود التي تفتت الدول وتقسم تراب الوطن الواحد.
لذلك، تسقط اليوم كل ذرائع “قسد” أمام الطاولة التفاوضية المقبلة مع دمشق، التي تفرد آخر المهل أمام “قوات سوريا الديمقراطية” لتطبيق الاتفاق بدعم واشنطن للحكومة السورية، ما يضع “قسد” في خانة “الكش ملك” السياسي، وعليها اليوم الاختيار بين الاندماج الكامل في مؤسسات الدولة السورية أو مواجهة المزيد من العزلة السياسية.
فالانضمام السوري إلى التحالف الدولي ليس تحالفاً عسكرياً، بل تحالف سياسي يفرض تحولاً استراتيجياً يغير المعادلات السابقة كلها، ويجبر “قسd” على إعادة النظر في استراتيجياتها.
ومنذ توقيع اتفاق العاشر من آذار/مارس، تطايرت التصريحات والوعود من “قوات سوريا الديمقراطية” لتطبيق الاتفاق، لكن شياطين الانفصال واللامركزية تغلغلت في تفاصيل الاتفاق وذهبت للمماطلة في عملية الاندماج وتسليم مؤسسات الدولة.
ومع انضمام سوريا للتحالف الدولي، بدت التصريحات إيجابية، حيث قال نائب رئاسة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، بدران جيا كرد: إن هناك تفاهماً شفهياً مع دمشق على دمج “قسد” ككتلة وفرق في الجيش السوري.
مؤكداً عبر المنابر الإعلامية، “بأن الدمج يشمل قسد وأيضاً المؤسسات المدنية والخدمية والسياسية في شمال شرقي سوريا”. كما رأى جيا كرد أن اللقاء والتفاهمات بين الرئيسين السوري والأميركي تؤسس لمرحلة جديدة في البلاد، واصفاً الموقف الأميركي بأنه إيجابي وداعم لدمج جميع المؤسسات في الدولة السورية.
ولفت إلى أن تعليق العقوبات خطوة إيجابية ومهمة لأنها أرهقت السوريين، بحسب قوله، كذلك يأمل أن يتم استغلال تعليق العقوبات لإجراء إصلاح سياسي وترسيخ الحوار الوطني.
وأشار المسؤول في الإدارة الذاتية لـ”قسد” إلى أن انضمام سوريا إلى التحالف الدولي خطوة محورية، موضحاً أنه يخلق مساحات مشتركة مع “قسد”. ورأى أن التحالف الدولي يعزز مواقعه في المنطقة، وأن الشراكة معه أقوى من المراحل السابقة. أتى هذا الإعلان بعدما أكد القائد العام لـ”قسد”، مظلوم عبدي، التزامه بدمج قواته في الدولة السورية عبر منصة “إكس”، مشيراً إلى أنه بحث في اتصال هاتفي مع المبعوث الأميركي إلى سوريا، توم باراك، نتائج اجتماع الرئيس السوري، أحمد الشرع، مع الرئيس الأميركي في البيت الأبيض الاثنين. كما أوضح أن الاتصال تناول أيضاً “التزامه بتسريع دمج قوات سوريا الديمقراطية في الدولة السورية”.
ورغم كل التصريحات السابقة، إلا أن اتفاق العاشر من آذار/مارس بقي حبراً على ورق سياسي يحاول قسم مجهول تمزيقه. وهناك من يرى أن هذا التوقيت السياسي فرصة كبيرة لـ”قسد”، إذ يرى المحلل السياسي والاستراتيجي، درويش خليفة، في حديثه لصحيفة “الثورة”، أن الخطوات الأميركية الأخيرة تجاه السلطة في دمشق تعكس مقاربة أمنية في المقام الأول، وقد تتحول تدريجياً إلى رؤية سياسية أكثر واقعية وشراكة معلنة، في اللحظة التي يُرفع فيها العلم الأميركي فوق مبنى السفارة في شارع المنصور – أبو رمانة بدمشق.
ويضيف السيد خليفة بأن انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب ومنظومة ملاحقة خلايا “داعش” يعد فرصة حقيقية لإعادة بناء الثقة بين دمشق و”قسد”.
الطرفان باتا جزءاً من معركة واحدة، فسوريا أصبحت عضواً في التحالف، وستخضع قواتها لبرامج تدريب مشترك وتتلقى معدات عسكرية ولوجستية، و”قسد” شريك ميداني يمتلك خبرة تراكمية في مواجهة “داعش”.
ومن هنا يمكن تطوير العلاقة بين الجانبين، والعودة إلى مناخ اتفاق 10 آذار/مارس، بغطاء ورعاية أميركية واضحة تشكل حجر الأساس لمسار الاستقرار الوطني الذي تؤكد عليه واشنطن في تصريحات البيت الأبيض والخارجية والكونغرس.
اتفاق العاشر من آذار/مارس
نص الاتفاق الذي وقعه الرئيس السوري، أحمد الشرع، وقائد “قسد”، مظلوم عبدي، يوم الاثنين الموافق 10 آذار/مارس 2025، على ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة في العملية السياسية وكافة مؤسسات الدولة بناءً على الكفاءة، بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والعرقية.
كما نص الاتفاق على أن المجتمع الكردي مجتمع أصيل في الدولة السورية، وتضمن الدولة السورية حقه في المواطنة وكافة حقوقه الدستورية، وضرورة وقف إطلاق النار على كافة الأراضي السورية.
أيضاً من ضمن البنود، دمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز، وضمان عودة كافة المهجرين السوريين إلى بلداتهم وقراهم، وتأمين حمايتهم من الدولة السورية.
ودعم الدولة السورية في مكافحتها فلول الأسد وكافة التهديدات التي تهدد أمنها ووحدتها.
وأخيراً؛ رفض دعوات التقسيم وخطاب الكراهية ومحاولات بث الفتنة بين كافة مكونات المجتمع السوري.
عليه تسعى اللجان التنفيذية إلى تطبيق الاتفاق بما لا يتجاوز نهاية العام الحالي.
فرصة سورية حقيقية.. هل تفعلها “قسد”؟
خلال 14 عاماً من عمر الثورة السورية، نشأت “الإدارة الذاتية” ككيان فرض سيطرته في مناطق شمال وشرق سوريا، مدعوماً بقوات التحالف الدولي والوجود الأميركي.
ورغم أن “قسد” لم تفرض انقساماً وانفصالاً علنياً عن سوريا، لكنها عملت على بناء هياكلها السياسية والعسكرية والإدارية الخاصة بها، مرشحة نفسها على أنها الحاكم الفعلي لمناطق شمال شرق سوريا.
ومع انتصار الثورة السورية وما لحقها من تغيير للأجواء السياسية في سوريا وانضمام دمشق للتحالف الدولي، بات من الواضح أن الحكومة السورية قادرة على استعادة سيادتها على كافة أراضيها، وأن التحالف الدولي يمكن أن يكون بمثابة غطاء دولي يعزز موقف دمشق في إقناع القوى المحلية والدولية بضرورة إعادة مؤسسات الدولة إلى المناطق التي كانت تحت سيطرة “الإدارة الذاتية”.
وبذلك، تستعيد الدولة السورية فرض سيطرتها على المناطق الشمالية الشرقية، وتستعيد أيضاً التوازن السياسي والميداني والاقتصادي للبلاد، خاصة أن مناطق الثروة النفطية والغذائية معظمها في شمال شرق سوريا، الأمر الذي يجعل التفاوض مع الحكومة السورية فرصة حقيقية.
وفي هذا الصدد يرى المحلل السياسي، درويش خليفة، أنه استناداً إلى المعطيات السورية الجديدة، فإنه تبدو أمام سوريا فرصة حقيقية للانتقال نحو الاندماج الوطني وتثبيت ذلك ضمن الدستور الجديد، بما يضمن المواطنة المتساوية لجميع السوريين، فضلاً عن أن اللامركزية الإدارية لم تعد عائقاً أمام بناء وفاق وطني، بل قد تكون إطاراً عملياً لإعادة تعريف العلاقة بين المركز (دمشق) وبقية المناطق، خصوصاً في ظل التوجه نحو الاصطفاف ضمن المحور الغربي الذي يولي أهمية لحقوق المجتمعات ومصالحها.
إذ يبقى العامل الأهم هو تضييق فجوات الانقسام، والحد من خطاب الكراهية بين السوريين، تمهيداً لمسار مصالحة وطنية تقوم على أسس سياسية وقانونية واجتماعية واضحة.
النسيج السوري وطاولة التفاوض
يُعتبر ملف “قسد” في سوريا ملفاً شائكاً، تحاول القوى الخارجية، مثل إسرائيل، العبث فيه واستغلاله من خلال تشجيعها على الانفصال.
لكن انضمام سوريا إلى التحالف الدولي وانتهاء مرحلة شبه الاستقلال التي كانت تتمتع بها “الإدارة الذاتية” يضع حداً لهذه المشاريع ويغلق الباب أمام محاولات التقسيم.
فاندماج “قسد” ومؤسساتها في الدولة السورية الجديدة ينهي أي أحلام انفصالية ويفرض واقع الوحدة الوطنية، ويعزز الهوية السورية الجامعة من خلال عودة مؤسسات الدولة إلى شمال شرق سوريا، ويعكس حقيقة تاريخية سورية، هي أن جميع المكونات السورية – عرباً وكرداً وسرياناً وآشوريين – في الشمال الشرقي يتشاركون مع باقي مكونات المجتمع السوري العريق في بناء الدولة الجديدة.
وهذا يعيد التأكيد على أن الحلول في سوريا يجب أن تكون قائمة على مبدأ الوحدة الوطنية، وهو ما يشكل رافعة للتخلص من محاولات التفتيت التي كانت تستهدف النسيج الاجتماعي السوري.
إن مقولة “سوريا لا تقبل القسمة” كانت ولا تزال محفورة في وجدان كل السوريين عبر تاريخهم.
ولأن إرادة الشعوب فوق كل شيء، طوع السوريون الأحداث السياسية عبر 14 عاماً لتصب اليوم في صالح وحدتهم من خلال الانفتاح السياسي على العالم والإنجازات الدبلوماسية التي كان آخرها انضمام سوريا إلى التحالف الدولي ضد الإرهاب.
ويعد هذا تحولاً استراتيجياً يعيد ترتيب الأوراق في الداخل السوري وعلى الساحة الإقليمية والدولية، ويشكل إطاراً لدمج “قسد” في الدولة السورية، ويغلق الباب أمام مشاريع التقسيم والتجزئة التي رفضتها دمشق.
لذلك، كان المشهد في واشنطن بأن تطلب دمشق رعاية أميركية لتطبيق اتفاق العاشر من آذار/مارس، فالدولة السورية الجديدة تسعى نحو حل هذا الملف، ولا يبدو أنها تريد الانجرار إلى مواجهات عسكرية داخل سوريا.