الثورة – نيفين أحمد :
لم تكن النيران التي اشتعلت في سفوح ريف جبلة قبل يومين مجرّد لهب يلتهم الأشجار، بل كانت امتحانا لصلابة أبناء الجبال وارتباطهم بالأرض.
في بيت ياشوط وقراها حيث تتشابك أغصان الزيتون مع أشجار الغار والصنوبر، لم يسألوا عن حجم الخطر أو شدته. كانت “الاستجابة ” وكأن النداء خرج من قلب الجبل نفسه.
وجوه سودتها النار… وأيدٍ تحمل الحياة
مئات الشبان بعضهم في العشرينات وبعضهم تخطى الأربعين حملوا ما توفر: معاول، فؤوس، خراطيم مياه محمولة على الكتف وأحيانا أغصان خضراء يضربون بها اللهب.
كانت ملامحهم مغطاة بسواد الدخان، لكن العيون تلمع بإصرار لا يخمد. يركضون بين المنحدرات يقفزون فوق الصخور يقطعون المسافات حفاة احيانا، فقط ليصلوا إلى رقعة نار قبل أن تلتهم ما حولها.
حب الأرض أكبر من الخوف
الأرض هنا ليست مجرد تراب إنها ذاكرة عائلة وصوت جدّ يحكي عن موسم الزيتون وظلال شجرة عاش تحتها الأطفال.
حين اقتربت النيران من البساتين تحوّل الخوف إلى عزيمة، والعزيمة إلى جدار بشري يصدّ اللهب، كانوا يدركون أن الدفاع عن الشجر هو دفاع عن حياتهم نفسها.
الجبال المحيطة ببيت ياشوط لطالما احتضنت أهلها واليوم كان الدور عليهم ليحتضنوها.
الصنوبر، السنديان، الغار… أشجار عمرها عقود كانت تحترق أمام أعينهم وكأنها تستغيث بأبنائها.
وفي لحظة التقاء الدخان بصوت الريح كانت خطوات الشباب على السفوح أشبه بدقّات قلب واحدة تنبض بحب الأرض.
لم تكن الفزعة رجالًا فقط، ونساء القرى حضرن بالماء والطعام يسقين المتطوعين قبل أن يجفّ ريقهم. كبار السن جلسوا على أطراف الطرقات يدعون بينما الصغار يركضون حاملين زجاجات الماء.
مشهد يختصر المعنى العميق لكلمة “قرية”: بيت واحد كبير وسقف من سماء واحدة وجبال هي الشاهد على أن التضامن أقوى من النار.
ربما ستعود الأمطار بعد أشهر وتكسو الجبال بالأخضر لكن ذكرى هذه الفزعة ستبقى محفورة في وجدان الناس.
لقد أثبت شباب بيت ياشوط أن الانتماء ليس شعارا، بل فعل يكتبه الجهد والعرق على حجارة الجبل، وأثبتوا أن الإنسان حين يحب أرضه يستطيع أن يواجه ألسنة اللهب بيدين عاريتين وقلب لا يعرف الانكسار.