الثورة – علا محمد:
شاشاتٌ تضج بالأصوات والصور، فالشهرة لم تعد تحتاج إلى إنجاز أو قيمة، بل إلى مقطع قصير يُثير الضحك أو الاستفزاز، عواء كلب، كلمة عابرة، حركة غريبة، لتتحول في لحظة إلى “ترند” يتصدر المشهد، ويُمنح صاحبها لقب “مؤثر”.
مشهدٌ يثير الاستفهام والجدل، خاصةً حين يُكرَّم أصحاب هذا المحتوى في مؤتمرات تُسوّق لهم كـ”نماذج شبابية ملهمة”.
شباب بين الدفاع والرفض
في جولة لـ”الثورة” بين آراء مجموعة من الشباب، بدت الصورة متناقضة تماماً، فالمراهقة ميرا، 16 عاماً، تحدثت بلهجة صريحة عن متابعتها لأحد هذه الحسابات، معتبرةً أنها وسيلتها الوحيدة للهروب من الأخبار الموجعة التي تحاصر يومها من حرائق واشتباكات وأحلام ضائعة، في المقابل، يضيف سامي، 19 عاماً، أن اهتمام الدولة بهؤلاء “المؤثرين” خطوة ذكية، إذ يمكن استثمار شعبيتهم الواسعة لإيصال رسائل التوعية والمعلومات بشكل أسرع.
وبين هذا وذاك، أشارت رنا، 22 عاماً، إلى أن الظاهرة مستفزة، متسائلة: “كيف يمكن لمن يقلّد أصواتاً غريبة أو يعوي كالكلب أن يُقدَّم كقدوة لجيل كامل؟” بينما شدد حسام، 24 عاماً، على أن ما يجري يعكس أزمة أعمق في الذائقة المجتمعية، إذ لم يعد النجاح يقاس بالإنجاز وإنما بعدد المشاهدات، كذلك، أشارت فرح، 20 عاماً، إلى أن متابعة هذا النوع من المحتوى تزرع لدى كثير من الفتيات شعوراً بالدونية، إذ يقارن حياتهن البسيطة بما يُصدَّر من مظاهر باذخة ومزيفة.
هذه الآراء مجتمعة ترسم صورة عن جيل من الشباب يتأرجح بين الفضول والهروب من الواقع، وبين النقد والرفض الواعي.
ظاهرة تستفز المجتمع
ردود الفعل الشعبية تواصلت بعد مؤتمر “سكريبت” الذي جمع 400 شخص تحت مظلة “المؤثرين المهمين”، هنا، لم يعد الأمر مجرد فيديوهات عابرة، بل قضية رأي عام، حيث انقسمت المواقف بين من يبرر الظاهرة باعتبارها وسيلة للهروب من الواقع المرير، ومن يرفضها رفضاً قاطعاً ويرى فيها انحداراً خطيراً للقيم والمعايير.
تفاهة مبرمجة وخطر على القيم
وحول هذه الظاهرة، أوضحت الباحثة الاجتماعية عزة كردي، المعالجة النفسية والمستشارة الأسرية لـ صحيفة “الثورة” أن “انتشار هذا اللون للعابرين بسرعة – وليس المؤثرين – أكبر من أن يُنكر”، مؤكدة أنها ترفض إطلاق صفة “مؤثر” عليهم، وأشارت إلى أن شعبيتهم تستقطب من هم على نفس المستوى الفكري، ومن جهة أخرى تُغذى وتُضخم من الخارج عبر حسابات يُصرف عليها ملايين الدولارات لتنتشر وتُوثق، وبحسب قولها، فإن جزءاً لا يُستهان به من المجتمع يهرب من ضغوطات الحياة اليومية بمتابعتهم، بينما يعيش آخرون أوهام الحصول على حياة هؤلاء “النجوم” وفق الصورة المزيفة التي تُصدَّر لهم.
وعبرت كردي عن قلقها من التأثيرات النفسية الواضحة لهذه الظاهرة، لافتة إلى أنها تسلب العقول وتبرمجها على التفاهة لتصبح عادية، وتزرع مشاعر عدم الثقة بالنفس، والرغبة في التقليد والمقارنة المستمرة، كما أضافت أن هذه المتابعات جعلت التذمر من الواقع شعاراً لجيل كامل، محذرة من أن بعض الشباب بدؤوا يرون في صاحب المحتوى المبتذل قدوة، الأمر الذي يهدد بنية الأسرة الصغيرة والمجتمع، ويضاعف من الضغوطات النفسية على المدى القريب والبعيد.
وأكدت الباحثة أن هذا النوع من المحتوى يزعزع القيم والأخلاق التي تقوم عليها الأمم، في وقت تسعى فيه سوريا إلى إعادة البناء على جميع الأصعدة، كما بيّنت أن الحسابات الفارغة تتصدر المشهد لأنها تسد فراغاً في النفوس غير الواعية، مضيفة أن المجتمع يعاني من عقد نفسية واجتماعية خلفتها سنوات الأزمات والحروب، وفي الوقت نفسه، يسهم الإعلام في تكريس هذه الظاهرة بدعوة أصحاب تلك الحسابات إلى المؤتمرات ومنحهم المراتب الأولى.
سبل المواجهة والتوعية
وعن سبل المواجهة، شددت كردي على أن الحل لا يأتي بين ليلة وضحاها، بل يتطلب جهوداً مبذولة ورؤية موحدة، تبدأ برفع الوعي المجتمعي ودعم المؤثرين الحقيقيين الذين يقدمون الفائدة والارتقاء حتى وإن كان عدد متابعيهم قليلاً، ولفتت إلى أهمية إبعاد كل من يساهم في تصدير هذه النماذج للمشهد، لأنهم، بحسب قولها، يعيدون سوريا ألف خطوة إلى الوراء.
وختمت بالقول إن التوعية الإعلامية تلعب دوراً محورياً في هذه المرحلة، شرط أن تكون الجهة الإعلامية موضع ثقة، وأن يتميز الإعلاميون بالصدق والثقافة والعمل النظيف، وأضافت: “أتمنى أن أرى سوريا تتباهى بمؤثرين حقيقيين لهم بصمة إيجابية واضحة، لأن بناء الوطن لا يقتصر على العمران والاقتصاد، بل يبدأ من بناء نفسي وفكري واجتماعي واعٍ.
“لم يعد مجرد ظاهرة
تصدّر المحتوى المبتذل للمشهد الرقمي لم يعد مجرد ظاهرة عابرة، بل أصبح مؤشراً صريحاً على الحاجة إلى وعي اجتماعي وإعلامي متكامل، قادر على التمييز بين من يبني العقول ومن يستهلكها، وبين من يترك أثراً حقيقياً وبين من لا يترك سوى الفراغ، ليصبح المجتمع أمام مسؤولية تشكيل ذائقة رقمية سليمة