الثورة – فادية مجد:
في قلب الطبيعة الساحرة لجبال الساحل السوري الجنوبي، وعلى ضفاف نهر الأبرش التاريخي، تقف طاحونة الدير شامخةً كأقدم الشواهد الحية على عبقرية الإنسان السوري القديم في استثمار الماء والحجر، هذه المنشأة الأثرية التي تعود جذورها إلى العهد الفينيقي، لم تكن مجرد طاحونة لطحن الحبوب، بل مؤسسة صناعية متكاملة، ومعلَم ديني واجتماعي ارتبط بدير مار جرجس الحميراء، لتروي قصة حضارةٍ عريقةٍ امتزج فيها الإبداع الهندسي بجمال الطبيعة وروح الوقف الخيري.
لتسليط الضوء على هذا الموقع الأثري تواصلنا مع المؤرخ الٱثاري بسام القحط، والذي قال في تصريحه لصحيفة الثورة: يجمع علماء الآثار الغربيون الذين عملوا في منطقة صافيتا، على أن طاحونة الدير تُعدّ من أقدم الطواحين المائية الأثرية في منطقة جبال الساحل السوري الجنوبي، وتعود أساسات هذه الطاحونة إلى العهد الفينيقي، فيما يعود البناء الحالي إلى العصر البيزنطي المبكر، نحو عام 500 ميلادي، وقد أعيد بناؤها واستعمالها عدة مرات، كان آخرها في أوائل العهد العثماني.
وأضاف القحط منذ تاريخ تأسيسها، كانت الطاحونة وقفية، موقوفة على دير مار جرجس الحميراء الأثري للروم الأرثوذكس، الواقع في منطقة وادي النصارى، ما يضفي عليها طابعاً دينياً واجتماعياً عميقاً.
عبقرية الموقع واختيار المكان
ولفت القحط إلى قيام سكان منطقة صافيتا القدماء، في العهد الروماني، باختيار موقع بناء الطاحونة في نقطة نموذجية عند منخفض الدوار الطبيعي والأثري، وهي أعمق نقطة من وادي نهر الأبرش التاريخي، تحديداً عند مجراه الأوسط، عندما يكون النهر في أغزر حالاته، وتقع الطاحونة تحت قريتي كفر صنيف وبدادا، جنوب شرق مدينة صافيتا التاريخية، وعلى بعد 4.5 كم منها.
وقد كان هذا الاختيار موفقاً جداً، إذ بُنيت الطاحونة في أخفض نقطة من وادي الدوار، بحيث يمكنها أن تتلقى المياه الجارية بشكل مستمر وعلى مدار العام، وهو ما جعلها منشأة مائية فريدة من نوعها في المنطقة.
نظام تشغيل مائي مزدوج
طاحونة الدير كانت تتلقى مياهها من مصدرين رئيسيين، يضمنان لها التشغيل على مدار الفصول، إذ تأتي المياه من الطابق السفلي لقبو الطاحونة، عبر قناطر داخلية تدخل في مجرى النهر، الذي يغذي بهذه الطريقة أسفل الطاحونة بالمياه الجارية، بهدف إدارة رحى الطاحونة ودواليبها باستمرار في فصلي الشتاء والربيع، عندما يكون النهر في حالته الغزيرة، وعندما تخف مياه مجرى النهر الأصلي في قعر الوادي خلال فصل الصيف، وتعجز عن إدارة الرحى من أسفل القناطر، ابتكر القدماء طريقة عبقرية لضمان استمرار عمل الطاحونة، فقد نحتوا قناة مائية عريضة ضمن صخر الجرف الصخري، تصل بحيرة الشلال بسقف الطاحونة، إذ تأتي المياه من البحيرة الصغيرة عبر القناة الصخرية من مستوى عالٍ، وتنتهي القناة عند سقف الطاحونة، وتصبّ المياه من الأعلى فوق فتحات السقف التي تغذي آبار الطاحونة الداخلية، فتسقط المياه على الأرحاء وتديرها في فصل الصيف وحتى أوائل الخريف، ما يضمن استمرار وظيفة الطاحونة الأساسية في طحن القمح وباقي الحبوب كالذرة والشعير، في موسم الحصاد وبعده وعلى مدار العام.
خمسة مضارب
وبحسب القحط لم يقتصر دور طاحونة الدير على طحن القمح وتأمين دقيق الخبز، بل تم تصنيفها في الوثائق العثمانية والوقفيات الخيرية المسيحية الموجودة في دير مار جرجس الحميراء البطريركي بأنها طاحونة دار الرحى ذات خمسة مضارب “أبواب”، وهذا يعني أن للطاحونة خمسة أقسام داخلية متخصصة، هي طحن القمح والذرة والشعير، وعصر العنب والزيتون، وبهذا الشكل، تُعد طاحونة الدير مؤسسة حرفية صناعية متكاملة، عملت على تأمين الأغذية الأساسية من طحين، برغل، زيت، وعصائر، وغيرها من المنتجات الزراعية، وهي بهذه الصورة تُعدّ من أضخم المؤسسات الخيرية الوقفية في الساحل السوري الجنوبي ومنطقة وادي النصارى.
طراز معماري فريد
وحول الطراز المعماري للطاحونة أفاد: إن مبنى طاحونة الدير يُعدّ من أجمل نماذج الأقبية الكبيرة المساحة ذات السقف الحجري الأسطواني، بطراز كنسي روماني بيزنطي، فجدران الطاحونة مبنية من حجر صافيتا التلعاوي النادر حالياً، والمنحوت بإتقان، ما يجعله مكلفاً جداً من الناحية المادية، فيما تتجاوز سماكة كل جدار من جدران الطاحونة الأربعة أمتار، ما يعكس قوة البناء ودقة التصميم، ويمنح الطاحونة طابعاً معمارياً فريداً يستحق الدراسة والحماية.
مشهد طبيعي وأثري متكامل
وختم المؤرخ الٱثاري: إن موقع الطاحونة في أسفل وادي الدوار المائي الطبيعي والأثري، والذي يُعدّ غوطة غناء، يجتمع في مشهده الطبيعي والأثري كالشلال الصخري الغزير ، وبحيرات النهر الصغيرة ضمن مجراه ، ومدخل مغارة الدوار العميقة على ضفة النهر المقابلة، يصلح ليكون محمية بيئية طبيعية وحديقة وطنية أثرية أصيلة، تحفظ هذا الإرث الحضاري والبيئي الفريد، وتمنحه مكانته التي يستحقها في ذاكرة التاريخ السوري.