الثورة – لميس علي:
في كتاب “ألف باء دولوز”، أجاب الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز عن سؤال له علاقة بضرورة المعرفة المتخصصة للعلوم حين تقديم قراءات لها، تحدّثه “كلير بارنت”: “لست جيداً جداً في الرياضيات”، وتذكّره بأنه قرأ لفلاسفة كانوا جيدين جداً في الرياضيات، عن هذه المفارقة تستفسر محاورته “بارنت”: حين تكون لديك فكرة وتحتاج إلى شيء يثير اهتمامك ولا تفهمه كلّه بالضرورة، كيف تتصرف؟
في إجابة “دولوز” ثمة إثارة لمفهوم القراءة الثانية، القراءة غير المتخصصة، مشيراً إلى الكيفية التي تحفزه بها إمكانية القراءات المتعددة لنفس الشيء “فلا حاجة للفهم، إذ إن الفهم يكمن عند مستوى معين من القراءة”، مؤكداً أن كل ما يهم في هذا العالم، في مجال العقل، مفتوحٌ على قراءة مزدوجة شرط أن يقوم بها المرء “بدءاً من مشكلاته التي تأتي من مكان آخر”.
غالباً، المقصود بكلمة “مشكلاته” السياقات المعرفية والخلفية الثقافية التي نشأ ضمنها المتلقي غير المتخصص، كلّها تولّد لديه فهماً آخر أو قراءة مغايرة لِما أُريد أن تكون عليه حالة التلقي.
برأي “دولوز” هذا يؤدي إلى غنى المعنى وكسر احتكاره.
ما يذهب إليه يشجع على أن يكون لكل نص أكثر من تأويل.. وأن يكون مفتوحاً لإعادة اكتشافه باستمرار، حتى العلوم التي نظن أنها تخضع لقوانين ثابتة يمكن قراءتها كقصص عن الإنسان والعالم، لا مجرد معادلات جافة.
إحدى أهم استنتاجاته تمثّلت بقوله: “إلى مدى معين، يجب أن يستقر المرء عند النقطة الحدّية لمعرفته أو لجهله، وهو نفس الشيء كي يكون لديه ما يقوله”، بمعنى: على المرء ملاحظة الحدّ الفاصل بين المعرفة واللا معرفة، عند هذه “النقطة الحرجة” بالضبط ينبثق شيء جديد، فالحدّ ليس نهاية بل بداية لشيء لم ندركه من قبل، وكأنه مساحة مثمرة للتفكير وفرصة للخلق واكتشاف شيء آخر.
كأن كل ما يوصي به “دولوز” في إجابته المستفيضة والغنية يذهب بنا إلى عدم الاستقرار أو الركون إلى قراءة وحيدة، جامدة.
إنما اعتماد قراءات متطورة، لا ترتهن لظرفية زمانية ولا حتى مكانية، قراءات متعددة، غنية ومنفتحة.
وهو ما يمنح غنى للمعنى، لأن المعرفة الحقيقية ليست حفظاً ولا جموداً بل إنتاج جديد للمعنى تراه من زوايا مختلفة مع كل قراءة.
يبدو أن انحياز “دولوز” لتقديم قراءة مزدوجة، لا يمنح غنى للعلوم أو الفنون فحسب، بل يقدّم حالة من عدم الجمود في أنواع تلقٍ أخرى، وفي مجالات أكثر حرية وتوسعاً، كأن نكون أكثر استيعاباً لتقديم فهم/ معنى مغاير لجملة علاقاتنا، وحتى لمجموع الأفراد من حولنا.
وبوصف أي منّا، نصّاً قابلاً للتأويل والفهم واستقراء المعنى من جملة أفعاله وتصرفاته وسلوكياته، من اللافت والجميل أن نقبل على تطبيق “النقطة الحدّية” تلك التي أوصى بها “دولوز”.
لتقديم قراءة مستمرة ومتطورة لمن هم حولنا، تتناسب مع تغيرات تصيب الفرد من مدة لأخرى، أو بسبب ظرف معين يحياه.
فنحن لسنا بنصوص جامدة، بل نصوص حيّة مفتوحة على تعدد قراءات وتأويلات لا تعدّ ولا تحصى.
وما نحصل عليه في مجال تحصيل قراءات غير محدودة للمرء يندرج ضمن كسر احتكار الفهم.
فلا تنحصر قراءاتنا لشخص معين بانطباع أولي أو بظرف صعب يحياه، بهذا نصبح جميعاً روايات مفتوحة على إعادة الكتابة، لا نهايات مغلقة.