مصادفة محضة قادتها لاكتشاف أن الفترة الزمنية التي تقضيها في الطبخ هي الفترة الوحيدة التي تكاد تخلو من الانشغال بالتفكير بأي شيء آخر.وكأنها منطقة عازلة بينها وبين أشواك المنغّصات اليومية، أو مساحة فاصلة تعيد من خلالها ضبط ذهنها. في المطبخ لا تختبر فقط وصفات طعام مختلفة عمّا اعتادت عليه، بل تقوم باختبار فترات استراحة فكرية.. وتتعرّف على نفسها من زاوية لم تستهوِها من قبل.. كأنها تكتشف جزءاً من ذاتها كان مخبّأً بين انشغالات العمل والدراسة.. ذاك الجزء الذي بدأ ينحاز وينزاح لكل ما هو حياتي بسيط بعيداً عن جدّية الكتابة وصرامة المقال الصحفي.
ترابطت أفكار الطهي بذهنها حين قرأتْ مؤخراً خبراً عن صدور كتاب حديث بعنوان (كتاب طبخ كافكا)، ولوهلة فكّرتْ كم يبدو لافتاً أن نتعرّف على أي كاتب من جانب آخر مغاير لِما عرفناه عنه في الكتابة والأدب.. أن ندرك مذاقات أخرى من تجربته تضيء مفاصل يومية حياتية أكثر تدفقاً وغنى وقرباً من العيش. حين نطهو لا نحضّر فقط وجبات وأطعمة حسية، بل أشياء أبعد من ذلك بكثير، فالطعام يتجاوز المتعة اللحظية والمذاق المادي المحسوس، وربما وصل إلى متعة فلسفية.. تماماً كما عبّر عن ذلك الفيلسوف الفرنسي “ميشيل أونفري” معتبراً أن الطبخ وتناول الطعام تجربة ترتبط بالوعي الذاتي، فاختباراتنا الغذائية تعكس هويتنا الفلسفية.. و(أن نأكل هو أن نغذي آلية ميكانيكية نفكر بواسطتها).
تذكّرتْ قائمة أفلام تتحدّث عن الطهي وعن طهاة بمسيرة حياة فارقة، بعضها مثل فيلم (No reservation) رأى في المطبخ ليس مكاناً لإعداد الطعام بمقدار ما هو متنفس للتأمل وإعادة إشعال فتيل الحياة عبر الحبّ.. وربما عبر الأفكار.بالنسبة لها، فكان عقلها يجد في تفاصيل الطبخ الصغيرة فسحةً لالتقاط أنفاسه كي يُعيد الإقلاع من جديد.. وكأنها تُعِدّ وجبتها (الفكرية) على نار التأمل الهادئة.. فتتخمّر أفكارها وتترابط بقوامٍ تسبّكتْ عناصره وضُبِطتْ منكهاته، على موقد الكلمات التي تنتقيها بدقةٍ وعنايةٍ كاملة تماماً كما تنتقي مكوّنات طازجة لإعداد طبق الطهي، كتجربة تغني مذاقات فكرها وحواسها على السواء.