الثورة :
جاء خطاب الرئيس أحمد الشرع أمام الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة بمثابة إعلان رسمي لعودة سوريا إلى المجتمع الدولي بعد سنوات الحرب والعزلة، لم يكن مجرد كلمة بروتوكولية، بل خارطة طريق واضحة لمرحلة انتقالية تحمل ملامح مشروع دولة جديدة ترتكز على العدالة، المصالحة، وبناء المؤسسات.
استهل الشرع كلمته باستحضار «الحكاية السورية» باعتبارها صراعاً بين الحق والباطل، ليعيد صياغة الذاكرة الجمعية للسوريين بوصفهم أصحاب قضية عادلة واجهت منظومة إجرام استمرت ستة عقود.
سردية الخطاب كانت مزيجاً من الألم والأمل، وأداة لإعادة تعريف الثورة على أنها بداية تأسيس لا نهاية أزمة، وإبرازها كعامل استقرار إقليمي وليس مصدر تهديد.
في الجانب الداخلي، ركز الرئيس الشرع على خطوات ملموسة: تشكيل لجان لتقصي الحقائق، فتح المجال أمام لجان تحقيق دولية، حصر السلاح بيد الدولة، إعادة هيكلة المؤسسات المدنية والعسكرية، وإطلاق انتخابات لممثلي الشعب، هذه الرسائل استهدفت الجمهور السوري قبل المجتمع الدولي، لتأكيد أن السلطة الجديدة لا تكرر أخطاء النظام البائد، وأنها تتجه نحو دولة قانون تكفل حقوق الجميع.
على المستوى الخارجي، شدد الشرع على الالتزام باتفاق فضّ الاشتباك لعام 1974 والدعوة إلى احترام سيادة سوريا، موجهاً رسالة طمأنة إلى دول الجوار وإلى إسرائيل، وفي الوقت نفسه وضعها أمام مسؤولية الانسحاب من الأراضي المحتلة. كما دعا لرفع العقوبات بشكل كامل، مؤكداً أن هذه الإجراءات تحاصر الشعب لا الحكومة الجديدة، ومعلناً تعديل قوانين الاستثمار وفتح السوق السورية أمام الشركات الإقليمية والدولية.
الخطاب قدّم سوريا كدولة محورية قادرة على لعب دور أساسي في استقرار المنطقة، وليس مجرد متلقٍّ للأزمات، في المقابل، دعا المجتمع الدولي إلى التعامل مع دمشق وفق قواعد شراكة جديدة، تقوم على دعم العدالة الانتقالية والتنمية الاقتصادية بدل سياسة العقوبات والعزلة.
قراءة مضمون الكلمة تشير إلى أن المرحلة المقبلة ستشهد تحركات دبلوماسية مكثفة لترتيب مؤتمرات مانحين وفتح مسار تفاوضي حول القضايا الحساسة مثل دمج القوات الكردية في الجيش السوري والتوصل إلى تفاهمات أمنية على الحدود الجنوبية، كما أن الخطاب يشكل دعوة للشركات الكبرى لاستثمار الفرص في إعادة الإعمار، وإشعار السوريين بأن المرحلة الانتقالية ليست مجرد شعارات بل خطة عمل.
بلا شك فإن خطاب الرئيس الشرع في نيويورك يعتبر وثيقة سياسية تعيد صياغة ملامح «العقد السوري الجديد» داخلياً وخارجياً، ونجاح هذه الرؤية سيعتمد على قدرة الحكومة على ترجمة التزاماتها إلى إصلاحات ملموسة، وعلى استعداد المجتمع الدولي للانتقال من سياسة إدارة الأزمة إلى سياسة دعم بناء الدولة، وإذا تحقق ذلك، فقد يسجَّل هذا الخطاب كنقطة انعطاف تاريخية تفتح الباب أمام سوريا مختلفة تماماً عن تلك التي عرفها العالم خلال العقود الماضية.