الثورة – جهاد اصطيف:
تتصاعد في مدينة حلب جهود مكثفة لمكافحة ظاهرة التسول، التي تفاقمت خلال السنوات الأخيرة نتيجة الحرب وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، ولأن هذه الظاهرة لم تعد مجرد مشهد يومي عابر في الشوارع والساحات، بل تحولت إلى قضية اجتماعية وإنسانية وأمنية معقدة، بادرت محافظة حلب خلال الشهرين الماضيين إلى إطلاق خطة شاملة، تستند إلى ثلاثة مسارات متكاملة : قانونية، أمنية، وإنسانية.
وتهدف هذه الخطة إلى حماية الفئات الأشد هشاشة، مثل الأطفال والمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة، وتأمين بيئة آمنة لهم عبر مراكز إيواء بديلة، وبرامج تأهيل نفسي واجتماعي، إضافة إلى إجراءات صارمة ضد من يستغل هذه الفئات لأغراض الكسب غير المشروع.
خلفية الظاهرة وتناميها
ظاهرة التسول ليست جديدة على المجتمع السوري، لكنها ازدادت بشكل ملحوظ في مدينة حلب نتيجة ظروف الحرب والنزوح وفقدان مصادر الدخل، ومع غياب الرقابة لفترات طويلة وتهالك البنى الخدمية والاجتماعية، تحولت بعض الشوارع والساحات والأسواق إلى مسرح يومي لعشرات المتسولين، بينهم أطفال صغار ونساء ورجال مسنون.
وتشير تقارير محلية إلى أن عدداً من هؤلاء ليسوا محتاجين فعلياً، بل يعملون ضمن شبكات منظمة تستغل الضعفاء، ما جعل الظاهرة تأخذ بعداً أكثر خطورة، يتداخل الجانب الإنساني مع الأمني والقانوني.
أمام هذا الواقع، رأت محافظة حلب أن المعالجة الأمنية وحدها غير كافية، وأن الحل يتطلب خطة شاملة، تجمع بين الردع القانوني والتأهيل الإنساني، وتفعيل دور المجتمع المحلي والجمعيات الخيرية.
اجتماعات تحضيرية
في هذا السياق، بحث معاون محافظ حلب لشؤون المنظمات والتنمية محمود شحادي، خلال اجتماع موسع مع ممثلي دور الرعاية والجمعيات الأهلية، سبل استيعاب الأطفال المتسولين وذوي الاحتياجات الخاصة والمسنين، وإيجاد بدائل عملية عن مركز مكافحة التسول الحالي.
تم الاتفاق على توزيع الحالات المضبوطة على دور الرعاية المختصة، إضافة إلى تعزيز التنسيق بين الجهات الحكومية والجمعيات الخيرية، والعمل على برامج تأهيل ودمج مستدامة تضمن حماية كرامة هذه الفئات.
الخطة التي اعتمدتها المحافظة ترتكز على: المسار القانوني من خلال متابعة الحالات التي يثبت فيها استغلال الأطفال أو العاجزين في التسول، وتشديد الإجراءات القضائية بحق المتورطين، والمسار الأمني الذي يعتمد على تنظيم حملات ميدانية في مختلف الأحياء، لملاحقة المتسولين والشبكات التي تديرهم، وضبط الحالات في ساعات الذروة والأماكن الأكثر نشاطاً، والمسار الإنساني من خلال نقل الحالات إلى مراكز إيواء بديلة، وإجراء الفحوصات الطبية والنفسية، واستخراج الوثائق المفقودة، ولم شمل العائلات عند الحاجة، إضافة إلى برامج دعم نفسي وتأهيل مهني للأطفال والشباب.
حملات ميدانية
بدأت محافظة حلب تنفيذ حملاتها الميدانية المكثفة ضد التسول في 19 آب 2025، إذ شملت المرحلة الأولى أحياء مركزية، مثل الفرقان، السريان، القصر البلدي، محيط جامعة حلب، الخالدية، محطة بغداد، و المتحلق الغربي، ووفق البيانات الرسمية، فقد تم ضبط 133 حالة تسول خلال الجولة الأولى، بينهم أطفال ورضع ونساء ورجال من أعمار مختلفة، وقد جرى نقل هؤلاء إلى مركز مكافحة التسول المؤقت، المجهز بعيادة طبية وغرف إقامة أساسية.
مع بداية أيلول 2025، انطلقت المرحلة الثانية للحملة، إذ توسع نطاقها ليشمل أحياء، مثل العزيزية، السلمانية، الشعار، الصاخور، الميدان، الصالحين، الفردوس، صلاح الدين، الأنصاري، وسيف الدولة، وخلال هذه المرحلة، ارتفع عدد الحالات المضبوطة إلى أكثر من 200 حالة، نقلت جميعها إلى مراكز مخصصة لمتابعة أوضاعها.
آلية دقيقة
ما يميز خطة محافظة حلب- حسب المعنيين في المحافظة- أنها لم تقتصر على ضبط المتسولين وإخراجهم من الشارع، بل وضعت آلية دقيقة لمعالجة كل حالة فور وصولها إلى المركز، أهمها الكشف الطبي الفوري وإجراء الفحوصات العامة بإشراف أطباء مختصين، وتصنيف الحالة اجتماعياً وصحياً ضمن تقرير مفصل يحدد إن كانت بحاجة فعلية أو تمتهن التسول، وتقديم خدمات الدعم النفسي والاجتماعي عبر مرشدين مختصين لمدة ثلاثة أيام متواصلة.
كما تتخلل الخطة أنشطة للأطفال وجلسات توعية للكبار، واستصدار الوثائق الثبوتية لمن فقد أوراقه الرسمية، ما يفتح الباب أمام لم الشمل أو إعادة دمج الحالة في مؤسسات التعليم والعمل ومتابعة لاحقة بعد الخروج، إذ لا يُكتفى بإيواء الشخص لفترة قصيرة، بل تفتح قنوات تواصل لمراقبة مدى التزامه بالدمج ومنع عودته إلى الشارع.
هذه الخطوات تضمن أن تكون الحملة أكثر من مجرد حملة أمنية مؤقتة، بل برنامج إعادة دمج اجتماعي، يراعي الجانب الإنساني أولاً.
تنسيق مؤسسي
مع استمرار الحملات الميدانية، عقدت محافظة حلب اجتماعات عدة للجنة المعنية بمكافحة التسول، برئاسة المحافظ عزام الغريب، وتم خلال هذه الاجتماعات تحديد أولويات جديدة، من أبرزها تأمين أماكن بديلة للمشردين عبر تجهيز مراكز إيواء إضافية، وإعادة تأهيل الدور المتضررة التي يمكن أن تستوعب أعداداً أكبر، وإيجاد مراكز متخصصة للأطفال المتسولين، إذ يحصلون على برامج تعليمية وترفيهية، بعيداً عن أجواء الشارع، وتشديد الإجراءات القانونية بحق الأشخاص أو الشبكات التي تستغل الأطفال والمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة لأغراض التسول، والتنسيق مع وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل لتأمين الدعم الفني واللوجستي لمراكز الرعاية، وتوفير كوادر إضافية من اختصاصيين نفسيين واجتماعيين.
هذا التنسيق يعكس إدراك السلطات المحلية أن المعالجة لا بد أن تكون مؤسسية متكاملة، لا تعتمد فقط على العمل الميداني، بل أيضاً على إعادة بناء البنية التحتية الاجتماعية والقانونية.
بين الحاجة والاستغلال
أثناء الحملة، تكشف للمسؤولين أن ظاهرة التسول في حلب تنقسم إلى نوعين رئيسين، أولهما: حالات فعلية بحاجة للمساعدة، أسر فقدت معيلها، نساء أرامل مع أطفالهن، مسنون بلا مصدر دخل، وأشخاص يعانون من أمراض تمنعهم من العمل، هؤلاء يشكلون الفئة الأكثر هشاشة، ويحتاجون إلى رعاية طويلة الأمد، وثانيهما: حالات استغلال منظم، مثل أفراد أو شبكات تدفع الأطفال أو تستغل مرضى نفسيين للتسول، وتجمع الأموال لحسابها، وقد تم توثيق بعض هذه الحالات، وأُحيلت إلى الجهات القضائية المختصة.
هذا التباين جعل الحملة أكثر صعوبة، إذ لا يكفي مجرد ضبط الأشخاص في الشارع، بل يتطلب الأمر فرزاً دقيقاً، يحدد من هو بحاجة فعلية إلى الرعاية، ومن هو جزء من شبكة منظمة تستغل الضعفاء.
أدركت محافظة حلب أن النجاح في مكافحة التسول لا يمكن أن يتحقق فقط بالعمل الحكومي، لذلك، جرى توسيع الشراكات مع الجمعيات الأهلية والخيرية، لتقديم الدعم المادي والخدمات التطوعية، وقد لعبت هذه الجمعيات دوراً مهماً في الرعاية والمتابعة
تقاطع معقد
إن ما تقوم به محافظة حلب اليوم في مواجهة ظاهرة التسول، يشكل نموذجاً متقدماً لمعالجة قضية اجتماعية معقدة، تتقاطع فيها الأبعاد الإنسانية والقانونية والأمنية، ومع أن الطريق لا يزال طويلاً ومليئاً بالتحديات، إلا أن الخطوات التي اتخذت خلال الشهرين الماضيين، تظهر جدية واضحة في التعامل مع الظاهرة، وتقديم حلول أكثر استدامة تراعي كرامة الإنسان وحقه في حياة كريمة.
وفيما تتواصل الحملات الميدانية والتنسيق مع الجمعيات الأهلية، يبقى الرهان الأكبر على وعي المجتمع المحلي، وعلى قدرة المؤسسات على توفير بيئة بديلة آمنة، تضمن للأطفال والمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة أن يكونوا أفراداً منتجين وفاعلين في المجتمع، بدلاً من أن يبقوا ضحايا للشارع والاستغلال.