الثورة – رانيا حكمت صقر:
لم يكن تراجع حضور الجمهور في دور السينما السورية حدثاً عابراً، بل هو مأساة تتشكل ببطء منذ منتصف التسعينيات، حين بدأت الصالات تودع أيامها الذهبية واحدة تلو الأخرى.
الناقد السينمائي منصور الديب يسلط الضوء في حديثه لـ”الثورة” على هذه الأزمة العميقة التي باتت تهدد وجود السينما كمشهد ثقافي هام في سوريا، ويكشف الأسباب المتداخلة لهذا الانحسار الكبير، مع تقديم بصيص أمل في إعادة إحياء علاقة الجمهور بالشاشة الكبيرة. ويرى أن أزمة انخفاض عدد مرتادي السينما في سوريا ليست وليدة اللحظة، بل هي نذير منذ عقود، فقد كان عدد صالات السينما أكثر من مئة صالة تعج بالمشاهدين، واليوم لم يتبق إلا أقل من عشر صالات عرض، بعضها لا يتجاوز عرض أفلام قديمة كأنها خطوات ماضية نحو الانقراض.. هذا الانحدار لا يعكس فقط تراجع عدد المشاهدين، بل انهياراً في بنية السينما وعلاقتها مع الجمهور وإدراكه لها.
ويشير الديب إلى عدة أسباب متشابكة وراء هذا العزوف، منها: احتكار المؤسسة العامة للسينما لاستيراد الأفلام، مما جعل العروض محدودة وغير متجددة وغير ملائمة لأذواق واحتياجات الجمهور.
تراجع القدرة الشرائية للمواطن السوري، الذي وجد في الفيديو والفضائيات والإنترنت بديلاً أرخص وأكثر راحة، يتيح له مشاهدة الأفلام في الوقت والمكان الذي يختاره، إضافة إلى إهمال تحديث البنية التحتية لصالات السينما، التي بقيت تخلو من التكييف والتقنيات الحديثة، حتى حين انتشرت في العالم تجارب عرض الـ 3D وIMAX، ظلت صالاتنا تقدم أفلاماً تقليدية غير جاذبة. ويرى أن الأهم من ذلك، اختفاء جيل جديد تعوّد على طقوس السينما والتجارب الجماعية، الجيل الذي نما مع شاشة الهاتف، والمنزل كصالة عرض، ومنصات البث كأصدقاء، لم يعد يرى في السينما سوى محتوى رقمي يمكن استهلاكه منفرداً.
ويؤكد منصور الديب أن جيل Z السوري “وهو جيل مواليد 1997- 2015” يعاني من انقطاع حقيقي عن السينما، فهو لا يجد في الصالات ما يلبي اهتماماته وذوقه، سواء من حيث نوعية الأفلام أم توقيت عروضها وجودتها، مقارنةً بنظرائه في مدن عالمية أخرى، تجذبهم أفلام الخيال العلمي والرعب والأنيميشن، في سوريا لا تُعرض تلك الأفلام في الوقت المناسب أو الجودة المطلوبة، مما يدفعهم للوصول إلى المحتوى عبر الإنترنت. ولكنه يرى بصيص أمل في أن التحولات ممكنة حين تُقدم الأفلام كظاهرة ثقافية متكاملة، كما حدث مع عروض أفلام عالمية ضخمة مثل “أفاتار” و”تايتانيك” و”أوبنهايمر”، إذ شهدت الصالات طوابير وجماهيرية قياسية رغم كل الصعوبات.
ويخلص الناقد الديب إلى أن الحل ليس مجرد إعادة فتح الصالات القديمة، بل اختراع جديد للسينما السورية يشمل: تجهيز صالات حديثة مكيفة بأحدث التقنيات، عروض متزامنة مع الصدارة العالمية وبجودة عالية، أسعار مناسبة مع عروض متنوعة تلبي جميع الأذواق، خلق بيئة سينمائية متكاملة تضم مساحات اجتماعية وثقافية تجعل الذهاب إلى السينما تجربة كاملة، إضافة إلى وضع خطط تسويقية ذكية تستهدف الجيل الجديد بلغته واهتماماته. ويشير إلى أن السينما ليست ترفيهاً فقط، بل وسيلة فريدة للتواصل الإنساني والحوار، كما ظهر في أفلام الثورة السورية التي بثت رسائل قوية للعالم، من خلال لغة السينما التي لا تحتاج إلى ترجمة.
في النهاية، يحذر الناقد السينمائي منصور الديب من أن السينما في سوريا لم تمت، لكنها محتضرة، وإنقاذها ضرورة ثقافية واجتماعية واقتصادية. فهل نمتلك الجرأة والإرادة لإعادة تعريف السينما ليس كمتحف للماضي، بل كبوابة للمستقبل.