الثورة – هنادة سمير:
فيما تضيء أضواء الألعاب النارية الفنادق الفخمة في دمشق، يعيش أغلب السوريين في عتمة صامتة، فجوة بين الفرح المعلن والمعاناة الحقيقية، بين صور الاحتفالات على الشاشات ووجع القلوب في الأحياء المهدمة.
لا شك أن الفرح مشروع لكل إنسان، لكن المفارقة تكمن حين يتحول الفرح إلى عرض باهظ الثمن يعمق شعور الفقد والحرمان بدل أن يلامس حياة الناس ويخفف معاناتهم.
مشهد متناقض
من يتأمل المشهد السوري منذ سقوط النظام البائد حتى اليوم، يقف أمام تلك المفارقة الصارخة، فئة محدودة تغرق في حياة من الترف تحيط بها المظاهر الفارهة من مواكب للسيارات الحديثة، إلى الحفلات الباذخة.. بالمقابل تغرق الشوارع في ظلام دامس، وتثقل الحفر أزقتها وتنتظر بيوتها بصيص أمل في الإعمار.
وفيما يواجه المواطن السوري البسيط يومياً مأساة تأمين لقمة العيش، وغياب السكن اللائق، وفقدان الخدمات الأساسية، تصرف ملايين الليرات على الاحتفالات الباذخة، حتى أن مشهد الألعاب النارية وحده أثار جدلاً واسعاً.. لماذا تُحرق هذه الأموال في الهواء، فيما هناك أسر شهداء لا تملك ثمن دواء، أو هناك معتقل سابق يعيش مشرّداً بلا مأوى؟
يقول أحد سكان حي المزة في دمشق: استغرب أن أرى المبالغة عند البعض في مظاهر الترف وهم يعيشون بيننا، ويرون كم تحتاج شوارعنا وأحياؤنا من أموال لإعادة بنائها، ويرون أعداد المواطنين المتضررين خلال حقبة النظام البائد الذين يحتاجون إلى المأوى والمأكل والمشرب، وهم أولى بتقديم يد العون بدل أن تهدر تلك الأموال على احتفال يستمر ساعة أو ساعتين.
ويرى المهندس عمار المولى، أن الفرح حق للجميع وحاجة إنسانية لا يمكن لأحد أن ينكره على السوريين، خاصة بعد سنوات الحرب والمآسي، لكنه يتساءل: أي فرح نريد؟ هل هو فرح مكلف مبني على البذخ، أم فرح بسيط ينطلق من قلوب الناس؟
وتقول ندى المصري، من ريف دمشق، وهي أم لثلاثة أطفال: نحن لا نريد حرمان أحد من الفرح، ولكن لو خُصص جزء بسيط من الأموال التي تصرف على الحفلات لتأهيل المدارس أو إصلاح الطرق، لعم الفرح آلاف الأسر المنتفعة من تلك الإصلاحات.
المؤثرون وثقافة المادة
ويرى المحامي سعيد زعرور، أن الأموال المهدورة في ليلة واحدة يمكن أن تساهم في تعبيد عشرات الكيلومترات من الطرق، أو تجهيز مركز صحي يخدم آلاف المواطنين، أو بناء مدارس توفر بيئة تعليمية للأطفال، مشيراً إلى أن الاستثمار في الفرح المستدام أفضل من لحظة فرح عابرة.
الخبيرة التنموية سوسن السهلي، بينت في حديثها لـ”الثورة”، أن هذه الظاهرة لم تعد مجرد إنفاق زائد على حفلات وألعاب نارية، بل تحولت إلى سلوك اجتماعي مقلّد تغذيه وسائل التواصل الاجتماعي.
وبينت أنه مع انتشار المؤثرين على المنصات الرقمية خلال السنوات الأخيرة، باتت صور الحفلات الفخمة تُعرض يومياً، ما يُحدث عدوى اجتماعية، إذ يسعى البعض لتقليد أنماط حياة يظهر على الشاشة وكأنها معيار للنجاح أو السعادة، وتوضح أن هذه المظاهر تخلق شعوراً بالحرمان والتمييز لدى شريحة واسعة، خاصة الفئات الهشة التي لا تملك موارد لتلبية مثل تلك الكماليات.
وتتابع: الأطفال والشباب يتأثرون بشكل كبير، فهم يربطون بين البذخ والمكانة الاجتماعية، وهذا يفاقم شعورهم بالنقص والحرمان، وبهذا المعنى فإن المؤثرين، من دون قصد، يروّجون لثقافة مادية مبالغ فيها تجعل الفرح يبدو بعيد المنال لمن يعيشون ظروفاً صعبة أو ربما عادية.
وترى السهلي أن الحل ليس بحرمان الناس من الفرح، بل إعادة توجيه الثقافة الرقمية والاجتماعية نحو فرح جماعي وبسيط، يشمل: فعاليات في الساحات العامة والمدارس، تصل لكل الفئات وإقامة أنشطة بسيطة من قبل المؤثرين أنفسهم أو الفنانين تشارك فيها جميع الطبقات، وتشجيعهم كذلك على عرض أفراح ترتبط بنشاط ثقافي أو فني أو إبداعي، بدل البذخ الشخصي.
لا يرفض السوريون الفرح بل هم بأمس الحاجة إليه، لكنهم يرفضون أن يُبنى على حساب جوع فقير أو حرمان طفل فالفرح الحقيقي ليس في مظاهر البذخ لساعات بل في شارع آمن مضاء لسنوات.
وقد آن الأوان لوقف نزيف الملايين التي تهدر في احتفالات آنية، وتوجيهها إلى ما يخفف معاناة الناس ويمنحهم فرحاً متجدداً وواقعاً أقرب إلى الإنسانية.