سياسة الدعم بين القطاعين العام والخاص.. هل حمت الفقراء أم أفقرتهم؟

الثورة – تحقيق هلال عون:

منذ تأميمات الستينيات وتوسّع سيطرة الدولة على مفاصل الاقتصاد، تمّ تبنّي سياسة اقتصادية قائمة على دعم القطاع العام، عبر التأميم وتوسيع ملكية الدولة للمصانع والمرافئ والمصارف وحتى بعض المحال التجارية. كان الهدف المعلن حماية الطبقات الفقيرة والمتوسطة وضمان “عدالة اجتماعية” من خلال توفير السلع الأساسية بأسعار مدعومة. لكن بعد أكثر من نصف قرن، يبرز سؤال محوري: هل نجح القطاع العام في تحقيق هذه الغاية، أم أن البيروقراطية والفساد حوّلاه إلى عبء على الاقتصاد والمواطن معاً؟

رأي أنصار القطاع العام

يرى أنصار القطاع العام أنه لعب دوراً أساسياً في توفير احتياجات السوريين في ظل حصار اقتصادي متكرر، فمصانع القطاع العام وفّرت الخبز، السكر، الأرز، والألبسة بأسعار رمزية. ووفرت الصناعات المحلية مثل الأجهزة الكهربائية (التلفزيونات، البرادات)، وإن كانت متواضعة، إلا أنها خدمت أجيالاً من الأسر السورية لعقود طويلة. كذلك يقولون: إن القطاع العام وفّر فرص عمل لمئات الآلاف من الموظفين، ومنحهم رواتب تقاعدية، وهو ما لم يكن ليتحقق في ظل سوق مفتوحة تخضع لسطوة القطاع الخاص. من هذا المنظور، ينظر البعض للقطاع العام بوصفه “شبكة أمان اجتماعي” أنقذت السوريين من الجوع، خاصة في فترات الأزمات. أبو فراس (65 عاماً)، موظف متقاعد من مؤسسة حكومية، يقول: “لولا دعم الدولة ما كنا استطعنا نأكل خبز، كان الراتب قليلاً، هذا صحيح، لكن كنا نشتري الخبز والسكر والرز برخص التراب”.

ويضيف: “ابني درس في الجامعة برسوم رمزية، هذا كله بفضل سياسة دعم التعليم”. في المقابل، يرى منتقدو القطاع العام أن هذه الصورة لا تعكس الواقع..ريم (45 عاماً)، موظفة في قطاع التعليم، تقول: “راتبي بعد أكثر من 20 سنة خدمة، لم يكن يعادل 40 دولاراً قبل الزيادة الأخيرة… وتتساءل: كيف أعيش بأربعين دولاراً؟!.وترى أن الدعم الذي يتحدثون عنه يذهب في معظمه للمسؤولين الفاسدين، وللتجار والمهربين، وليس للفقراء، نحن ندفع ثمن الفساد”. ويؤكد اقتصاديون مستقلون أن سياسة الدعم الشامل تضررت بفعل الفساد والتهريب. الدكتور سامر حسام الدين، أستاذ في جامعة دمشق، يرى أن “الدعم لم يكن يصل إلى مستحقيه.. وطرح مثالاً على ذلك، دعم المازوت والخبز” فقد استفاد منه المهربون أكثر من المواطنين، وكان من الأجدى تحويله إلى دعم نقدي مباشر يذهب للأسرة المحتاجة من دون وسيط”.

فساد وشَلل إداري

على الجانب الآخر، يرى منتقدو القطاع العام أن هذه الصورة مضخّمة، وأن الواقع كان مختلفاً، ويقدمون عدداً من الاتهامات، هذا أبرزها:
أولاً: ضعف الكفاءة الإنتاجية، إذ إن معظم المنتجات المحلية كانت بجودة أقل من المستورد وبأسعار أعلى نسبياً، إذا ما قورنت بالقيمة الحقيقية.

ثانياً: الشلل البيروقراطي، الذي جعل أي إصلاح أو تطوير يصطدم بجدار اللوائح الجامدة، مما جعل الكثير من المصانع تتوقف لسنوات بسبب أعطال بسيطة لم تُعالج.

رجل الأعمال، الصناعي فيصل عطري يطرح مثالاً على ذلك فيقول: في عام 2015 تعطلت آلة إيطالية في معمل خاص بسبب قطعة صغيرة، الشركة الأم طلبت 5000 يورو لتبديل العلبة كاملة، لكن إدارة المعمل قامت، خلال أسبوع، بشراء طابعة ثلاثية الأبعاد من الصين وصنعت القطعة بنفسها بأقل من نصف السعر. بالمقابل، هناك معمل حكومي عنده نفس العطل منذ 2009 ولم يتحرك أحد لإصلاحه انطلاقاً من أن ثمن قطعة الغيار غالية الثمن. ويضيف عطري: الموظف هناك محكوم باللوائح، فيما في القطاع الخاص يبدعون ليستمروا.

ثالثاً: سرقة الدعم، فالدعم الحكومي المفتوح لم يذهب بالكامل إلى الفقراء- بحسب المنتقدين، ومنهم فيصل عطري، والخبير الإداري والاقتصادي الدكتور عبد المعين مفتاح- بل استفاد منه المهربون والتجار الكبار والمسؤولون الفاسدون أكثر مما استفاد المواطن البسيط.

رابعاً: تدهور قيمة الأجور، فالرواتب بقيت شبه ثابتة رغم ارتفاع الأسعار، ما جعل الموظفين يعيشون على أقل من 20 بالمئة من قيمة خبراتهم، وهذا الواقع دفع الكثيرين نحو الفساد أو البحث عن مصادر دخل أخرى. ويذكر عطري المفارقة التالية: “راتب حامل الدكتوراه في سوريا يقارب راتب موظف بشهادة ابتدائية، ولا يتجاوز غالباً 200 دولار، فيما راتب نظيره في الخارج قد يصل إلى 10 آلاف دولار”.

معضلة الدعم

المسألة المحورية التي يثيرها المنتقدون هي: هل من الأجدى أن تستمر الدولة الحالية في سياسة الدعم المباشر للسلع، أم أن الأفضل دعم المواطن نقدياً ومنحه راتباً يكفل له العيش الكريم؟

نموذج الدعم السابق للخبز والمحروقات والسلع الأساسية حمى شريحة المواطنين الأكثر فقراً، لكنه فتح باب الفساد والاحتكار والتهريب بطريقة دمرت الاقتصاد وأفقرت الشعب.

وعلى ذمة وزير سابق أن قيمة الفساد في موضوع الخبز وحده جاوزت 2000 مليار ليرة سنوياً، كانت تذهب لجيوب الفاسدين، بدءاً بتسعير واستلام القمح مروراً بتقييم الشوائب فيه وصولاً إلى طحنه وبيع الطحين المدعوم بمئة ضعف، تذهب لجيوب الفاسدين.

أما عن النموذج البديل المقترح من قبل المنتقدين، فيتلخص برواتب عادلة للموظفين والمتقاعدين، ودعم نقدي مباشر للأسر الفقيرة، مع إعفاءات ضريبية للقطاع الخاص مقابل تقديم خدمات مخفضة.

وفي ظل الجدل حول ملف الدعم الحكومي لبعض السلع، وما يرافقه من اتهامات بوجود فساد في إدارة هذا الملف، تبرز رؤية لافتة قدّمها الباحث الاقتصادي يزيد جرجوس، تقوم على إعادة صياغة مفهوم الدعم وآليات توزيعه بما يضمن العدالة الاجتماعية ويحمي شرائح المجتمع الأضعف.

الباحث جرجوس يرى أن الحل في “تشريح الأسعار”، ويقترح اعتماد آلية الشرائح السعرية، وهي شبيهة بما هو مطبق في الكهرباء والمياه، ليحصل المستهلك على دعم أكبر كلما كان استهلاكه أقل، وتنخفض نسبة الدعم تدريجياً مع زيادة الاستهلاك، بهذه الطريقة تلبّى احتياجات الأسر ذات الدخل المحدود، بينما يدفع المقتدرون سعراً أعلى يعوض تكلفة الدعم.

ويرى أن هذه الصيغة تتيح للمنظومة أن تتكيف تلقائياً مع تغير أوضاع الأفراد، فإذا تراجع دخل المواطن، سيستفيد مباشرة من نسب دعم أكبر بسبب انخفاض استهلاكه، والعكس صحيح لمن تحسنت ظروفه.

وفي السياق ذاته، يقترح د.عبد المعين مفتاح إنشاء شركات قابضة مشتركة بين الدولة والنقابات والبنوك العامة، تستثمر أموالها في مشروعات إنتاجية مربحة وتعيد العوائد إلى المشتركين.

سيف ذو حدّين

ويرى الباحث جرجوس أن القطاع العام كان سيفاً ذا حدين، فقد ساهم في حماية المجتمع في بعض المراحل، لكنه في المقابل تحوّل بفعل الفساد وسوء الإدارة إلى عبء كبير على الاقتصاد، وأما الجدل القائم بين أنصار القطاع العام والخاص، فيعكس انقساماً حول هوية الاقتصاد السوري نفسه.

آخر الأخبار
سوريا تنفي أي إساءة لمصر وتؤكد تمسكها بالعلاقات الأخوية "الممرُّ الإنساني" بين سوريا وإسرائيل..خطر التفكّك الطائفي منظمة تُطالب روسيا بالاعتذار والتعويض وتسليم المخلوع بشار الأسد الرئيس الشرع يوجّه رسالة تقدير للجالية السورية في الولايات المتحدة دمشق تستضيف المؤتمر الدولي الثالث حول الأسلحة الكيميائية الحكاية السورية.. حينما يكون مدادها دماء السوريين وزير الخارجية يشارك في اجتماع قادة مؤتمر ميونخ بالسعودية سياسة الدعم بين القطاعين العام والخاص.. هل حمت الفقراء أم أفقرتهم؟ سقوط أول لليفر وخماسية للسيتي طرطوس تحتفل باليوم العالمي للسياحة بماراثون رياضي وعروض بحرية مبهرة   "التعليم العالي": التوجه نحو جامعة سورية حديثة "مغسلة" تكشف المستور.. والرقابة تتدخل نقابة المهندسين واستحقاق الإعمار..نحو دور وطني مستقل في بناء سوريا كيف تتحول الاحتفالات إلى استعراض ونزيف للموارد؟ رغم توفرها.. ارتفاع أسعار الخضار والفواكه في طرطوس تحرم الناس شراءها هل ينجح الناتو والاتحاد الأوروبي في تثبيت جبهتهما الداخلية و ردع موسكو؟ إرادة الشعب تترجمها صناديق الاقتراع الأحد المقبل في انتخابات مجلس الشعب "لا توجد شبكة".. شعار الإنترنت المفقود بين الشبكات الأرضية والفضائية بحلب آفاق جديدة للتعاون التجاري والصناعي بين حلب و"جيزرة" التركية ماذا تتضمن خطة ترامب للسلام في غزة.. وهل تنجح؟