الثورة – سعاد زاهر:
ينفتح كتاب “شتيمة موصوفة” للكاتب عمار الأمير على إهداء حميم “إلى أمي قبلة قلبي وإلى زوجتي بيسان، أقدّم عملي هذا”، وهو إهداء يكشف منذ البداية أن نصوص الكاتب امتداد لجرح شخصي وعاطفي، من هنا تتجلى أهمية قصصه القصيرة جداً، لتكون أداة تسجيل الحياة في لحظات التهجير والحرب والسخرية والخيبات، لتمنح الهامش صوتاً، وتجعل الضحايا أبطالاً.

يشبه الكتاب صرخة في وجه الصمت، وكأنه وثيقة أدبية عن زمنٍ تكسرت فيه المعاني، ليقدّم مجموعة قصصية قصيرة جدّاً لكنها مكثّفة إلى حدّ الاختناق، وما يميّز هذا العمل أنه ليس مجرد نصوص أدبية بل أرشيف للألم السوري يعيد صياغة المأساة بلغة رمزية لاذعة تنقّب في تفاصيل اليوميّ وتحولها إلى مشاهد تكشف العبث والدمار.
خصوصية الكتاب تنبع من جمعه بين الواقعية الفجّة والرمزية الساخرة ليعيد رسم العلاقة بين الأدب والسياسة بين الكلمة والرصاصة، وكأن الكاتب يقول، حتى الشتيمة يمكن أن تكون فنّاً موصوفاً.
النصوص تتراوح بين الهمس والشتيمة بين مرارة الخيمة وضحك الشارع، من عناوينه، الخيمة التي تشبه الدفتر، أمومة ثكلى، ساحة أبو علي، حرب على الألوان، شتيمة موصوفة.
إنه بمثابة يوميات مقاومة تُظهر أن الإنسان حتى في ذروة الانكسار قادر على تحويل الوجع إلى نص، والسخرية إلى سلاح، والذاكرة إلى وثيقة.
ثكلى كأرشيف للذاكرة
كل نصّ هو مشهد مكتمل بذاته لكنه يتداخل مع غيره في شبكة سردية توثق الخراب، نجد في القصص أطفالاً يحترقون بألوانهم، نساءً يخبئن الحلوى في عباءاتهن السوداء، مؤذنين يستهدفهم القناص، ورؤساء يسقطون، لكن بعد أن يرقصوا على جثث شعوبهم.

إنه كتاب عن الحرب السورية، لكنه أيضاً كتاب عن الإنسان حين يوضع في أقصى درجات الهشاشة، هنا لا تعود الحرب حدثاً سياسياً مجرداً بل تتحول إلى تفاصيل صغيرة تمسّ الجسد والذاكرة واللغة.
في إحدى القصص يطلب طفل من الراوي شيئاً بسيطاً، قلت له: بماذا تحلم؟ قال: أريد دفتراً.. هذه العبارة تختصر فلسفة الكتاب كلها، الطفولة تصرّ على الكتابة في مواجهة الخيمة كأنها تقول: إن الحياة لا تُكتب بالحجارة، بل بالدفاتر.
الخيمة تتحوّل إلى دفتر هشّ يسجّل مصائر البشر بينما الطفل يجسد براءة تُفضح أمام عبث السياسة والحرب.
يمنح الكتاب صوتاً خاصاً للأم للأنثى التي تواجه الخراب بجسدها، لتتحول الخسارة إلى رابطة حيث يجتمع الحزن ليمدّ روابط جديدة من التضامن بين النساء.
النصوص النسوية هنا لا تكتفي بتصوير المأساة بل تعيد تعريف معنى الشهادة والأمومة والحياة لتصبح المرأة شاهدة وفاعلة وليست مجرّد ضحية.
في نص أقلام خشبية يكتب: زوجتي تلفّ بسِجادة الصلاة وتتضرع بأسنان ترتعش، فوسوس إلي الشيطان: البرد لا يزول بالدعاء والصلاة..!هذا المقطع يكشف كيف تتحول المأساة إلى صراع بين الجسد والعقيدة، بين حاجة البقاء ورغبة الإيمان، السرد يعرّي العجز ويجعل من الأقلام الخشبية وقوداً للمدفأة في استعارة مرّة عن احتراق الطفولة نفسها.
المأساة العارية
في قصة طفل في حاوية يصف، وبدل أن تهرب قطة خرج طفل من ظلام الحاوية! المشهد صادم يختصر الفقر، والتشرد، والجوع في صورة واحدة، المفارقة السوداء أن وجود الطفل في الحاوية يبدّد توقع القارئ فيكشف بشاعة الواقع حيث يتحول مأوى القمامة إلى مأوى للطفولة.
يقول في مؤذن مصاب، تحامل الشيخ على نفسه، أمتار فقط تفصله عن الجامع، دخل مترنحاً وأذّن بصوت متقطع لم يوقظ النائمين.
النص يجمع بين القداسة والهشاشة، المؤذن الأعمى الذي يقاوم رصاص القناص يصبح رمزاً للبقاء الروحي في مواجهة آلة الحرب.
الطفولة المبتورة رسم بالعيون
في مشهد مؤثر يكتب “رأيت طفلة ترسم قوس قزح بعينيها رغم أن يديها مبتورتان”، إنها ذروة الشعرية المأساوية، الطفلة تفقد أداة الرسم لكنها تبتكر قوس قزح بنظراتها، وكأن الكاتب يريد أن يقول: إن الأمل لا يمكن بتره حتى ولو بُتر الجسد.
النص الذي أعطى المجموعة عنوانها شتيمة موصوفة يحمل نبرة هجائية مباشرة “سيدي الرئيس البطن الذي حملك”.
الكاتب يضع الشتيمة في قلب النص الأدبي ليعيد تسييس اللغة، إنها ليست انفعالاً عابراً بل أداة تفكيك.
السخرية هنا تُعرّي السلطة وتحوّل الغضب الشعبي إلى جملة قصيرة قادرة على أن تخلّد في ذاكرة الناس أكثر من الخطب الطويلة.
النص كخبر عاجل
في نص “ساحة أبو علي” نتابع مشهد سقوط تمثال وتدحرج رأسه، صورة كثيفة تختصر سقوط التاريخ الرسمي، المدينة تتحوّل إلى شخصية فاعلة تعيش وتحلم وتُقصف وتضحك.
أما في “موت في المدينة” فيظهر كيف يواصل الناس حياتهم رغم القهر لكن بثمن إنسانيتهم، المدينة هنا ليست مكاناً، بل كائن يتنفس معاناة سكّانه.
من أبرز النصوص حرب على الألوان، إذ يتحوّل القصف إلى حرب رمزية ضد كل ما هو حيّ وجميل، الألوان تصبح ميداناً للمعركة والمدرسة تتحوّل في حصة وقذيفة إلى ساحة موت.. بهذه الصور المكثفة يربط الكاتب بين القصف المادي والمحو الرمزي للهوية والثقافة.
أسلوب الكتاب يعتمد على التكثيف واللقطة، جمل قصيرة صادمة تختزن أكثر مما تقول: البرد لا يزول بالدعاء والصلاة!
النص يشبه الأخبار العاجلة لكنه محمّل بشاعرية عالية حيث تتحوّل اليوميات الصغيرة إلى شهادة تاريخية، قد يرى قارئ تقليدي أن غياب الحبكة ضعف لكن هذا الخيار الجمالي هو عين قوّة النص، فسيفساء من التفاصيل الصغيرة التي تشكل سردية كبرى عن الفقد والمقاومة.
دفتر الشظايا وصوت المهمشين
“شتيمة موصوفة” دفتر شظايا، شهادة إنسانية تحفر في الذاكرة ما لا يلتقطه الإعلام أو المؤرخون “طفل يريد دفتراً، أم تتقاسم الحزن، رأس تمثال يتدحرج، مدينة تستمر رغم كل شيء.
قيمة هذا الكتاب تكمن في أنه يحوّل الشتيمة إلى أداة تفكير، والقصص الصغيرة إلى مرآة للخراب الكبير، إنه عمل يذكّرنا أن الهامش هو من يكتب التاريخ الحقيقي وأن الأدب قادر على أن يكون وثيقة مقاومة بقدر ما هو جمال ولغة.