السينما العربية.. جسر سري يرمم العلاقات المهمشة

الثورة – حسين روماني:

في عالم تتنازعه الخلافات السياسية والجغرافية، تظل السينما واحدة من أكثر الفنون قدرة على اختراق الجدران الصلبة وإعادة وصل ما انقطع بين الشعوب، الشاشة الكبيرة لا تكتفي بنقل الحكايات، بل تصنع ذاكرة جمعية عابرة للحدود، تتيح للعرب أن يعيدوا اكتشاف بعضهم البعض، بعيداً عن خطاب السياسة الضيق.

منذ بداياتها، لعبت السينما العربية دوراً يتجاوز الترفيه، لقد كانت وسيلة للتأثير الثقافي المتبادل، ولخلق صورة للآخر العربي في الخيال الجمعي، واليوم، في ظل التحولات الرقمية وتزايد المنصات، يبرز سؤال مركزي: هل يمكن للسينما أن تسهم في ترميم العلاقات العربية المهشمة؟.

لغة عابرة للسياسة

حين يشاهد مغربي فيلماً مصرياً، أو سعودياً أو فيلماً تونسياً، فإنه لا يتلقى مجرد صور على الشاشة، بل يدخل إلى تفاصيل حياة تختلف ظاهرياً عن حياته اليومية، لكنها في الجوهر تتقاطع مع همومه، الحب، الغربة، السلطة، الفقد، وحتى السخرية من الواقع، هذا التشارك في التجربة الإنسانية يحوّل السينما إلى لغة بديلة، لغة تتجاوز الخطب السياسية والبيانات الرسمية.

التجربة المصرية كانت واضحة منذ الخمسينيات حين تحولت إلى “هوليوود الشرق”، لتصبح أفلامها جزءاً من الذاكرة الوجدانية في المغرب والشام والخليج، ومع انطلاق موجات سينمائية جديدة في تونس والمغرب والعراق وسوريا، توسعت رقعة التأثير وأصبح الحضور العربي متعدد الأصوات، متنوع اللهجات، لكنه متصل بخيط إنساني واحد.

الذاكرة التي تعيد توحيدنا

الناقد السينمائي شرف عبد الباقي يرى أن السينما العربية اليوم تتحمل مسؤولية أبعد من الإبداع الفني، فهي مشروع لإعادة ترميم الذاكرة الجمعية، يقول: “الفيلم الجزائري عن ثورة التحرير، أو الفلسطيني عن النكبة، أو العراقي عن الحرب، ليست أعمالًا محلية فقط، بل هي مرآة لذاكرة عربية مشتركة، السينما تعيد إلينا ما فرّقته الحدود والسياسة، وتذكّرنا بأننا شعب واحد بتجارب متعددة.”ويعتبر عبد الباقي أن عرض الأفلام في المهرجانات العربية، أو على المنصات الرقمية، يخلق فضاءً من الحوار البديل، بعيداً عن الخطاب الإعلامي الرسمي، ويضيف: “السينما، بخلاف القمم السياسية، لا تحتاج إلى بروتوكولات، إنها تبني الجسور عبر الحكايات، وتزرع التعاطف الذي قد يفتح لاحقاً الطريق أمام مصالحة أوسع.

نموذج للحس النقدي

من بين التجارب اللافتة، تأتي السينما السورية التي استطاعت رغم الظروف الصعبة أن تنتج أصوات جريئة، يكفي النظر إلى تجربة المخرج أسامة محمد، الذي قدّم في فيلمه نجوم النهار “1988” معالجة شاعرية- سوداوية للواقع السوري، بلغة بصرية عالية الحساسية، وجرأة على مساءلة السلطة والمجتمع في آن واحد.

أفلام كهذه، حين تُعرض في فضاء عربي مشترك، تؤدي دوراً يتجاوز حدود سوريا، فهي تقدم صورة عن الهمّ السوري، لكنها أيضاً تضع المشاهد المصري أو المغربي أو الخليجي في مواجهة أسئلة تشبه أسئلته، عن الحرية، عن السلطة، عن المستقبل، هنا، تكمن قوة السينما كجسر أنها تفتح المجال للمقارنة، وللتعاطف، ولإعادة تعريف المشترك العربي.

أداة للمصالحة الثقافية

شهدت العلاقات العربية خلال العقود الماضية توترات حادة، انعكست على السياسة والاقتصاد والإعلام، لكن السينما ظلت قادرة على إبقاء قنوات الذاكرة والوجدان مفتوحة.

حين يتابع الجمهور في الخليج فيلماً تونسياً عن حرية التعبير، أو يكتشف المشاهد المصري فيلماً لبنانياً عن الحرب الأهلية، فإنه لا يتلقى مجرد تجربة فنية، بل يعيش فعل مصالحة ثقافية، المهرجانات العربية- من قرطاج إلى القاهرة، ومن مراكش إلى وهران- تؤدي دوراً أساسياً في ذلك، إنها مساحات لقاء، منصات لتبادل الخبرات، واحتفالات بالاختلاف ضمن إطار الوحدة.

أما المخرج محمد كمال فيقدّم رؤية عملية عن دور السينما، معتبراً أنها “رسالة إنسانية قبل أن تكون مشروعاً فنياً”، يقول:”حين أصوّر فيلماً عن واقع محلي، فأنا في الحقيقة أتكلم بلغة عالمية، مشاهد الحب، أو القمع، أو الغربة لا تخص بلداً واحداً، بل يمكن لأي عربي أن يراها في حياته اليومية، السينما قادرة على خلق مساحة مشتركة لأنها تلامس الإنسان قبل أي شيء.

“ويشدد كمال على أهمية الإنتاج المشترك بين الدول العربية، معتبراً أنه خطوة حاسمة في خلق سينما جامعة: “كما أثبتت التجارب العربية- الأوروبية أن التعاون يفتح آفاقاً جديدة، يمكن للإنتاج العربي- العربي أن يعيد تعريف السينما كفعل وحدوي، لماذا لا نجمع خبرات من مصر وسوريا والمغرب والخليج في مشروع واحد؟ هذا سيكون فعلاً سياسياً ثقافياً، مقاوما للتجزئة”.

الفرصة الجديدة

أحد أبرز التحولات في العقد الأخير هو صعود المنصات الرقمية التي أزالت الحواجز الجغرافية، لم يعد المشاهد بحاجة إلى صالة سينما محدودة، بل صار بإمكانه أن يشاهد الفيلم نفسه في القاهرة وبيروت والجزائر في اللحظة ذاتها، هذه التجربة خلقت مستوى جديداً من التفاعل والوعي المشترك.

لكن هذه الثورة الرقمية تحمل تحديات أيضاً: من القرصنة إلى ضعف التمويل، ومع ذلك، يظل الرهان كبيراً على أن السينما العربية، عبر المنصات، قادرة على إعادة صياغة حضورها كجسر ثقافي وجمالي بين الشعوب.

لا يمكن للسينما وحدها أن تعيد تشكيل العلاقات العربية، لكنها تملك ما لا تملكه السياسة، القدرة على إثارة الخيال والعاطفة، وفيما تتعثر المشاريع الاقتصادية والاتفاقيات الرسمية، قد ينجح فيلم واحد في إعادة فتح أفق للمصالحة.

الناقد شرف عبد الباقي يؤكد أن “السينما ضرورة وجودية لشعوب تبحث عن هوية مشتركة”، فيما يرى المخرج محمد كمال أن “المستقبل يكمن في إنتاج مشترك يعكس همومنا الجماعية ويعيد صياغة صورتنا أمام أنفسنا وأمام العالم”، أما السينما السورية، بتجاربها النقدية مثل أفلام أسامة محمد، فتذكّرنا أن صوت الفنان الفرد قد يكون أحياناً أكثر قدرة على التأثير من كل البيانات الرسمية.

وبين هذه الرؤى، تتضح ملامح مشروع بديل، سينما عربية حقيقية، تصنع الجسور، ترمم الذاكرة، وتفتح باباً نحو وحدة وجدان في زمن الانقسام.

آخر الأخبار
"الإيكوغراف" لفحص الثروة الحيوانية بحلب 165 مستفيداً من دورات التدريب المهني في "تربية دير الزور" بدء استقبال مرضى الحروق في مشفى دير الزور الوطني صهاريج المازوت العابرة للمحافظات خطرٌ يهدّد السائقين والغابات سوريا تنفي أي إساءة لمصر وتؤكد تمسكها بالعلاقات الأخوية "الممرُّ الإنساني" بين سوريا وإسرائيل..خطر التفكّك الطائفي منظمة تُطالب روسيا بالاعتذار والتعويض وتسليم المخلوع بشار الأسد الرئيس الشرع يوجّه رسالة تقدير للجالية السورية في الولايات المتحدة دمشق تستضيف المؤتمر الدولي الثالث حول الأسلحة الكيميائية الحكاية السورية.. حينما يكون مدادها دماء السوريين وزير الخارجية يشارك في اجتماع قادة مؤتمر ميونخ بالسعودية سياسة الدعم بين القطاعين العام والخاص.. هل حمت الفقراء أم أفقرتهم؟ سقوط أول لليفر وخماسية للسيتي طرطوس تحتفل باليوم العالمي للسياحة بماراثون رياضي وعروض بحرية مبهرة   "التعليم العالي": التوجه نحو جامعة سورية حديثة "مغسلة" تكشف المستور.. والرقابة تتدخل نقابة المهندسين واستحقاق الإعمار..نحو دور وطني مستقل في بناء سوريا كيف تتحول الاحتفالات إلى استعراض ونزيف للموارد؟ رغم توفرها.. ارتفاع أسعار الخضار والفواكه في طرطوس تحرم الناس شراءها هل ينجح الناتو والاتحاد الأوروبي في تثبيت جبهتهما الداخلية و ردع موسكو؟