الثورة – نور جوخدار:
بينما كان العالم منشغلاً بتنظيم داعش والحرب في سوريا في عهد نظام المخلوع بشار الأسد، نسجت إيران بهدوء ما يُشبه دولة داخل دولة على الأراضي السورية، حوّلت فيها البلاد فعلياً إلى ما يشبه “قاعدة أمامية” للحرس الثوري، امتدت من الحدود العراقية حتى البحر الأبيض المتوسط.
وفي تحقيق أجراه منتدى الشرق الأوسط للسياسات ودراسات المستقبل “ميدل إيست فوروم”، على مدى ست سنوات من 2018 وحتى سقوط الأسد في 2024، كشف فيه عن بناء شبكة واسعة من المنشآت العسكرية، ومستودعات الأسلحة، ومراكز القيادة، وانتشار الميليشيات في مشروع يتجاوز دعم الأسد، إلى إنشاء وجود عسكري طويل الأمد يصعب على أي حكومة سورية بعد الأسد تفكيكها، لتبقى أحد أكثر التحديات الأمنية إلحاحاً التي تواجه المنطقة.
وكشفت المعلومات عن شبكة منشآت استراتيجية، أبرزها كان منشأة جبل المزار شمال تدمر، والتي تعتبر جوهرة التاج للوجود الإيراني في سوريا، إذ تضمنت مستودعات أسلحة ضخمة تحت الأرض محمية بما يسمى لواء فاطميون، كما كانت المنشآت المجاورة مستودع سلاح للقوات الإيرانية العاملة في وسط سوريا في عهد النظام البائد.
وفي جنوب دمشق بين بلدات صحنايا والكسوة والسبينة أنشئ الفوج 166، والذي يديره الحرس الثوري مباشرة مع السيطرة الحصرية لمستودعات الأسلحة بعيدة عن سلطة الجيش السوري.
أما بريف دمشق الغربي مثلت قاعدة الفرقة العاشرة الواقعة بين قرى قطنا ويعفور وكفر قوق والصبورة نموذجاً آخر للاحتلال الإيراني، ضمت أنظمة حرب إلكترونية من طراز كراسوخا-4 متطورة ومقاتلين ما يقدر بنحو 100 مقاتل من حزب الله اللبناني والعراقي.
وكان مجمع جبل عزان بريف حلب الجنوبي مركز قيادة رئيسي للحرس الثوري في الشمال، أما مركز النصر في دير الزور كان غرفة عمليات للمنطقة الشرقية ومركز لاستقبال شحنات الأسلحة من العراق.
واعتمد المشروع الإيراني على “أرخبيل” من الميليشيات بالوكالة، حزب الله اللبناني، حزب الله العراقي، لواء فاطميون الأفغاني، ولواء الباقر، وغيرها، هذه الشبكات منحت إيران قدرة على التجنيد المحلي والانتشار والسيطرة العملياتية، مع الحفاظ على واجهات تنظيمية مختلفة لإبقاء الإنكار السياسي ممكناً.
التحقيق أكد أن إيران استثمرت في أنظمة دفاع جوي وحرب إلكترونية متقدمة، أبرزها في تل الحارة بدرعا الذي وفّر غطاءً لمراقبة مرتفعات الجولان والتشويش على الطائرات الإسرائيلية. كما رافق الانتشار العسكري برنامج هندسة سكانية، شمل توطين عائلات عراقية ولبنانية في تدمر ودير الزور، ومنحها وثائق سورية رسمية، إضافة إلى إنشاء مدارس دينية ومراكز ثقافية لترسيخ الولاء عبر الأجيال.
المشروع الإيراني امتد خارج سوريا عبر خلايا متمركزة في أوروبا وأميركا الشمالية، ووفّرت هذه الخلايا تمويلاً لعمليات الشراء، وجمع المعلومات الاستخباراتية عن المغتربين السوريين والعراقيين المعارضين للنفوذ الإيراني، واعتمدت هذه الخلايا على شركات استيراد ومنصات التجارة الإلكترونية كغطاء لنقل الأموال والمعلومات.
التحقيق وثّق مستودعات تضم صواريخ أرض-أرض جوهر الترسانة الاستراتيجية الإيرانية في سوريا، وصواريخ فجر وزلزال المطوّرة محلياً في معامل السفيرة، بالإضافة إلى أنظمة دفاع جوي متنقلة، تم توزيع المخازن جغرافياً بشكل يعقّد أي محاولة لاستهدافها بالكامل.
وأوضح منتدى الشرق الأوسط للسياسات ودراسات المستقبل أن إيران تركت وراءها في سوريا بنية عسكرية وأمنية واقتصادية عميقة، من قواعد تخزين تحت الأرض محصّنة إلى دفاع جوي متكاملة إلى مشاريع هندسة ديموغرافية وبشرية تمتد من القادة العسكريين في القواعد السورية إلى العملاء في العواصم الأوروبية، مما يجعل أي حكومة سورية مقبلة أو جهد دولي أمام تحدٍ هائل في تفكيك هذا “الوجود الموازي”.
وخلص تحقيق “ميدل إيست فوروم”، إلى أن استمرار هذه “الإمبراطورية الخفية” قد يهدد استقرار المنطقة لسنوات، خاصة إذا وقعت مخزونات الأسلحة في أيدي جماعات متطرفة أو استُخدمت لتأجيج صراعات متجددة، ومع انشغال صانعي السياسات بمناقشة إعادة إعمار سوريا والاستقرار الإقليمي، عليهم أن يُدركوا حقيقة أن إيران نجحت في إنشاء قاعدة عمليات أمامية دائمة تمتد من الحدود العراقية إلى البحر الأبيض المتوسط، وتفكيك هذه البنية التحتية، أو حتى احتواؤها، يتطلب اهتماماً دولياً مستداماً وموارد تتجاوز بكثير الالتزامات الحالية.