الثورة – ثورة زينية:
باتت أزمة وقوف السيارات واحدة من أكثر ملامح الحياة اليومية تعقيداً وإرهاقاً في قلب العاصمة دمشق التي تنام على ضجيج مستمر، وتصحو على صراخ الزحام، فلم تعد هذه الأزمة مجرد مسألة مرورية عابرة أو مشكلة إدارية مؤقتة، بل تحولت إلى حالة متشابكة من الضغط النفسي والتوتر الاجتماعي والتكاليف الاقتصادية والانهيار البيئي الصامت وسط شوارع تزداد ضيقاً وأحياء تختنق تحت وطأة الإسفلت والحديد.
ويبدو أن البحث عن موقف أصبح طقساً يومياً يعيشه مئات الآلاف من سكان العاصمة، وكأنه جزء لا يتجزأ من روتينهم المعتاد.
“الثورة” استطلعت بعضاً من آراء المواطنين والمختصين للوقوف على حيثيات هذه المشكلة على أرض الواقع.
وتحدث الطبيب نادر اسحق: السائق في دمشق اليوم لا يواجه فقط ازدحاماً في الطريق، بل يدخل في معركة مفتوحة للعثور على مكان يركن فيه سيارته من دون أن يتعرض لمخالفة أو لخلاف مع جار، أو حتى لابتزاز من أشخاص يحاولون السيطرة على الفضاء العام وتحويله إلى مصدر دخل شخصي، مضيفاً: هناك شوارع كاملة تحولت إلى ساحات صراع غير معلن، إذ تقف السيارات فوق الأرصفة وفي تقاطعات ضيقة وحتى أمام مداخل البيوت، وأصبحت الحجارة، والصناديق المهملة، والكراسي المكسورة، والسلاسل، أدوات تستخدمها العائلات لحجز مواقفها الخاصة، أما الأرصفة التي كانت يوماً ما ملكاً للمشاة فقد أُسندت إليها مهمة أخرى هي أن تكون مواقف للسيارات.
دمشق تختنق
المحامي ربيع كركوتلي، القاطن في حي البرامكة وسط العاصمة، يشير إلى منحى آخر للمشكلة بقوله: إن العلاقات بينه وبين بعض الجيران توترت بسبب المواقف، إذ أصبح كل شخص يتعامل مع المساحة أمام منزله وكأنها ملكية خاصة، فيما هي في الحقيقة من حق الجميع، لافتاً إلى أن هذه الحالة لم تخلق فقط اختناقاً في الشارع، بل تسللت إلى عمق العلاقات بين الناس، وبات من الطبيعي أن تجد خلافاً محتدماً بين جارين بسبب موقف، وهناك من يرفض أن يسمح لغيره باستخدام المساحة المقابلة لمنزله حتى لو كانت جزءاً من الشارع العام، مضيفاً: وهناك من يطلب أجراً شهرياً مقابل السماح باستخدام مساحة لا يملكها قانوناً، وقد تصل الأمور إلى توتر اجتماعي طويل الأمد، تتآكل معه مشاعر الجيرة وتغيب فيه لغة التفاهم.
سوق غير رسمية
إلى جانب ذلك هناك تكلفة اقتصادية صامتة تنمو يوماً بعد يوم- حسب المهندسة لانا أنفوقي، القاطنة في حي تنظيم كفرسوسة، مبينة أن كثيراً من سكان العاصمة باتوا يدفعون مبالغ شهرية لقاء مواقف خاصة داخل أبنية، أو يضطرون إلى ركن سياراتهم في مواقف مدفوعة الثمن بعيدة عن أماكن سكنهم أو عملهم، بل إن بعض الأحياء تشهد سوقاً غير رسمية لتأجير المواقف، يقف فيها شبان ينظمون الوقوف ويطلبون مبالغ مقابل السماح بركن السيارة تحت مسميات عديدة، من مثل الحراسة، أو التنظيم وما شابه، مؤكدة أن مثل هذه الممارسات- وإن بدت بديلة لغياب الخدمات تشكل اقتصاداً رمادياً يثقل كاهل المواطن ولا يخضع لأي رقابة حقيقية.
خطر بيئي صامت
فيما ترى الخبيرة البيئية سمر جحا، أن استمرار دوران محركات السيارات في الشوارع بحثاً عن المواقف لا ينتج عنه فقط مزيد من التوتر، بل يضيف أيضاً نسباً خطيرة من التلوث في الهواء، مشيرة إلى وجود تقارير غير رسمية تؤكد أن نسبة كبيرة من الوقود الحضري تهدر يومياً بسبب هذه الأزمة، ما يفاقم مشكلات التهوية في المدينة ويزيد من حدة الأمراض التنفسية، خاصة في الأحياء القديمة والمكتظة، وأن المدينة التي تعاني أصلاً من تراجع المساحات الخضراء وجفاف حدائقها وتقلص متنفساتها الطبيعية، تواجه اليوم خطراً بيئياً صامتاً يبدأ من عادم السيارة ولا ينتهي إلا في رئات سكانها.
غياب التخطيط الحضري المستقبلي
الخبير في شؤون التخطيط الحضري للمدن المهندس ربيع هيلم، بين أنه إذا كانت البنية التحتية جزءاً من المشكلة فإن غياب التخطيط الحضري المستقبلي يعمقها، موضحاً أنه لأعوام طويلة لم تنجز مشاريع مرافق طابقية جديدة ولم تطور ممرات المشاة ولم يفرض تنظيم واضح يمنع التكدس العشوائي للمركبات، وبعض المشاريع أُعلن عنها ثم جمدت وبعض الحلول طرحت ثم أُهملت.
وأضاف: اليوم بات واضحاً أن دمشق لم تكن مهيأة أبداً لهذا العدد من السيارات، ولا لهذا النمط من الاستهلاك الشخصي للمركبات الخاصة، فالنقل العام الذي كان يمكن أن يمتص جزءاً من الأزمة لا يزال متردياً في خدماته ومهترئاً في بنيته، ولا يلبي احتياجات المواطن لا في التوقيت ولا في الراحة ولا في الأمان.
العدالة الحضرية
لكن في المقابل يؤكد أحد المعنيين في محافظة دمشق- فضل عدم ذكر اسمه، على أن الصورة لن تبقَ على حالها فبعد التغيير السياسي الذي شهدته البلاد وسقوط النظام المخلوع بدأت ملامح مرحلة جديدة في إدارة المدينة تظهر تدريجياً، إذ اتجهت محافظة دمشق إلى إعادة تعريف العلاقة بين المواطن والمدن بدءاً من الحق في الوصول إلى الفضاء العام، وصولاً إلى إعادة التفكير في أولويات الحركة والنقل، منوهاً بأنه ولأول مرة منذ عقود جرى فتح نقاشات علنية واسعة شارك فيها خبراء ومواطنون حول مستقبل النقل في العاصمة وحول كيفية استعادة الأرصفة والمواقف من الفوضى وتحويلها إلى خدمة عامة فعالة.
وأشار إلى انطلاق أعمال ترميم وتوسيع مواقف مركزية في مناطق مثل البرامكة والسبع بحرات مع إعادة إحياء مشاريع قديمة لمرائب طابقية تحت الأرض، ومستقبلاً هناك خطط لتنفيذ نظام ذكي لحجز المواقف إلكترونياً في الأحياء إلى جانب البدء بتطبيق نظام النقل الجماعي السريع عبر الحافلات الكهربائية وربطها بخطوط المترو الخفيفة المخطط لها.
إدارة المحافظة اليوم- بحسب المعني في المحافظة، تتعامل مع الأزمة باعتبارها جزءاً من ملف سماه العدالة الحضرية وليس مجرد أزمة مرورية، فقد بدأت بعض الإجراءات لتنفيذ خطة لمنع احتكار الأرصفة من قبل الأفراد، وفرض رسوم عادلة لتنظيم المواقف، مؤكداً أن هذه الإجراءات وإن بدت صعبة في البداية تجد قبولاً متزايداً بين المواطنين الذين بدؤوا يلمسون تحولاً تدريجياً في نوعية الحياة وتحسناً في توافر المواقف، وانخفاضاً طفيفاً في الاحتكاكات اليومية حولها.
وبين التحديات التي لم تزل قائمة والأمل الذي بدأ يتسلل من نافذة الإدارة الجديدة تبقى أزمة المواقف في دمشق اختباراً حياً لقدرة المدينة على النهوض من جديد.. إنها أزمة لا تتعلق بالشارع فقط، بل بشكل أعمق، وترتبط بسؤال: كيف نبني مدينة تحترم سكانها؟ وكيف نعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والحيز الذي يعيش فيه؟.
الإجابة لا تأتي دفعة واحدة، لكنها تبدأ من تلك اللحظة التي لا تضطر فيها أن تدور نصف ساعة بحثاً عن ركن سيارة، بل تجد المدينة قد أفسحت لك مكاناً من دون أن تطلب.