الثورة – عبد الحميد غانم:
تشكل الصناعة عصب الاقتصاد الوطني السوري، وركيزة أساسية في توفير فرص العمل ودعم الصادرات.
لكن سنوات النظام المخلوع وما تخللها من سياسات حمائية، حولت جزءاً كبيراً منها من قاطرة للإنتاج إلى أداة للمضاربة، وفقاً لتشخيص خبراء اقتصاديين.
اليوم، وفي ظل تحرير أسواق الاستيراد وسعر الصرف، تواجه الصناعة المحلية اختباراً حقيقياً للبقاء والمنافسة.
مسار تراجع
يرى رئيس مجلس النهضة السوري الخبير الاقتصادي عامر ديب أنه لا ينكر أحد تاريخ الصناعة السورية العريق، وصناعييها الذين كانوا سفراء للمنتج السوري عالمياً.
بيد أن هذا القطاع، كما يصفه ديب، بدأ يعاني نكسات متتالية، بدأت مع توقيع اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا عام 2008، والتي أحدثت خللاً في مبدأ المنافسة العادلة، ثم جاءت مرحلة منع الاستيراد تحت ذريعة حماية الصناعة المحلية منذ عام 2015، لتبلغ ذروتها عام 2020 حيث عاش بعض الصناعيين “سنوات ذهبية” في ظل احتكار السوق.
وفقاً للخبير الاقتصادي ديب، فإن المشكلة لم تكن في الظروف المحيطة فحسب، بل في عقلية الإدارة الصناعية ذاتها، فبدلاً من استثمار فرصة الاحتكار لتطوير الصناعة وتحسين الجودة، تحولت العقلية إلى “المضاربة والتجارة”، إذ لجأ البعض إلى تهريب منتجات أجنبية وبيعها على أنها محلية، محققين أرباحاً طائلة تجاوزت 100بالمئة.
وأشار إلى أن العمال في كثير من الحالات لم يحصلوا على الحد الأدنى من الحقوق والكرامة، بينما تم استخدام “موظفي واجهة” لمواجهة مخالفات حماية المستهلك.
انعكاسات سلبية
وبحسب الخبير ديب، أدى غياب الرقابة والمنافسة إلى إنتاج سلع بأسعار لم تراعِ القدرة الشرائية للمواطن، مع مستوى متدن في الجودة.
ويقول: هذه المعادلة دفعت نسبة كبيرة من المستهلكين إلى تفضيل المنتج المستورد، أو حتى اللجوء إلى “البالة” المستعملة كخيار أكثر جودة وسعراً، مما وسع الفجوة بين الصناعة المحلية واحتياجات السوق.
مع تغير الظروف وفتح باب الاستيراد وتحرير سعر الصرف، تبدلت المعادلة، فأصبح المستهلك، كما يصف ديب، “يشعر بواقع أفضل من حيث السعر والجودة”، وأصبحت المنافسة أكثر وضوحاً، ورغم ارتفاع تكاليف الطاقة، تبقى تكلفة الإنتاج في سوريا أقل مقارنة بتركيا أو أوروبا أو مصر، ما يمنح الصناعة المحلية ميزة نسبية.
المنافسة بديلاً
يؤكد الخبير ديب أن المطالبة اليوم بوقف الاستيراد ليست حلاً، فالعصرية تقتضي “إعادة النظر في السياسات التشغيلية والتسويقية” و”الاطلاع على التجارب العالمية”.
ويشير إلى أن “الصناعي الحقيقي هو من يصنع الظروف المناسبة لعمله”، ويبدع في تقديم سلعة تلبي حاجة المستهلك بجودة وسعر عادلين، فالبيئة الجديدة التي خلقتها الدولة عبر تحرير الأسواق، تتيح للصناعي السوري البناء على أساس المنافسة لا الاحتكار، على حد قول الخبير ديب.
وعليه، يؤكد ديب أن الصناعة السورية تقف اليوم أمام محك حقيقي، وأن التحدي لم يعد في سياسات الحماية أو إغلاق الأسواق، بل في قدرة الصناعيين على تغيير عقلية الاحتكار والمضاربة، وتبني ثقافة الجودة والمنافسة، وأن السوق تغير، وسلوكيات المستهلكين تطورت، والبقاء سيكون فقط لأولئك الذين يستمعون إلى نبض السوق، ويعيدون الاعتبار للصناعة كشريك حقيقي في التنمية وليس وسيلة للربح السريع.
ويختم بالقول: إن مستقبل الصناعة السورية مرهون بقدرتها على استيعاب دروس الماضي ومواكبة متطلبات المستقبل.