التعدد اللغوي.. صوت المدرسين ورسالة الطلاب لمستقبل التعليم

الثورة – ميساء العجي:

في سوريا، لم يعد صوت مدرّسي وموجهي مادة اللغة الفرنسية مجرد صرخة عابرة، بل تحوّل إلى حدث تربوي واجتماعي يعكس أزمة أعمق في السياسة التعليمية.

فمع القرار الأخير الصادر عن وزارة التربية، والقاضي بتقليص عدد حصص اللغة الفرنسية إلى حصتين فقط أسبوعياً، وجد مدرسو المادة أنفسهم أمام تحدٍّ مضاعف، كيف يمكن إيصال منهج كامل، يحتاج إلى تدريب وممارسة، في وقت ضيق لا يسمح للطلاب باستيعاب المادة بشكل فعّال؟.

مخاوف في الميدان التربوي

المدرسون جاسم الصالح، وميسون شربجي، وحسام العشي -ومن أمام وزارة التربية ـ أوضحوا أن تدريس لغة ثانية يحتاج إلى تراكم زمني، وإلى تدرّج في تقديم المهارات الأساسية: القراءة، الكتابة، والاستماع والمحادثة، فيما الحصص المحدودة تفرض عليهم تسريع الدروس، والتخلي عن الأنشطة التفاعلية، ما يحوّل المادة إلى مجرد قواعد جافة بلا ممارسة حقيقية، وهذا برأيهم أن الطالب سيفقد الحافز لتعلم اللغة الفرنسية، وسيعتبرها مجرد عبء إضافي على جدوله الدراسي.

كما عبّروا عن قلقهم من أن هذه الخطوة ليست مجرد تعديل تقني في خطة التدريس، بل قد تكون بداية لتقليص أوسع ينتهي بإلغاء المادة مستقبلاً.. بالطبع هذا الشعور يثقل كاهل المدرسين نفسياً، ويؤثر على اندفاعهم، خصوصاً أن الكثير منهم أمضى سنوات طويلة في دراسة اللغة الفرنسية وتدريسها ومن دون أن ننكر أن أعداد الأساتذة لمادة اللغة الفرنسية في سوريا، وخريجي معاهد إعداد المدرسين، وطلاب جامعات، يصل إلى نحو ٦٠ ألفاً تقريباً.. فأين سيذهب هؤلاء، ولا ننكر أنهم جميعاً يحملون على عاتقهم مسؤولية آلاف الأسر.

التعدد اللغوي ضرورة

لم يعد التعدد اللغوي خياراً رفاهياً في عالم اليوم، ففي معظم دول العالم، لا يكتفى الطالب بتعلم لغة أجنبية واحدة، بل يُطلب منه إتقان لغتين أو أكثر، يقول المدرس الصالح: إن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي أداة لفهم الثقافات، والاطلاع على مصادر معرفية متنوعة، والانفتاح على أسواق عمل عالمية.

كما بينت الآنسة شربجي أنه في أوروبا مثلاً، تُدرّس الإنكليزية كلغة أولى، إلى جانب لغات أخرى كالفرنسية، الألمانية، الإسبانية، أو الإيطالية، ويُشجَّع الطلاب منذ المراحل الابتدائية على تعلم أكثر من لغة أجنبية، إدراكاً لأهمية ذلك في حياتهم الأكاديمية والمهنية.

وفي دول أخرى من دول الجوار، الفرنسية حاضرة بقوة، وقد أصبحت اللغة جسراً للطلاب نحو الجامعات الدولية، وسوق العمل في الخارج، إحدى الآنسات قالت: إنه يجب أن تتوسع المدارس في تعليم اللغة الإنجليزية إلى جانب الألمانية والفرنسية، بهدف تمكين جيل جديد من الطلاب من مواكبة متطلبات الاقتصاد والسوق الأوروبية.

كما قال الأستاذ العشي: إن تقليص مادة اللغة الفرنسية قد يرسل رسالة خاطئة للطلاب، وهو أن تعلم لغة ثانية أمر ثانوي وغير ضروري، وهو ما يتعارض مع متطلبات العصر، إذ لم تعد الإنجليزية وحدها تكفي، خاصة أن الفرنسية ما زالت إحدى اللغات الرسمية في الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وعدد من المنظمات الدولية.

أثر القرار على الطلاب

الطلاب، كما يصف المدرسون، هم المتضرر الأول من القرار، وفي حديثه لـ”الثورة” قال الطالب حسن محمد: أحب هذه اللغة وأعتبرها المفضلة لدي، وكنت أتمنى بالمستقبل أن أصبح مدرساً لها بعد دراستي لها، لكن مع هذا الإجراء فيبدو الأمر صعباً.

أما مهند فيقول: إننا كطلاب ندرس اللغة الفرنسية، فنحن بحاجة لثلاث أو أربع حصص حتى نستطيع استيعابها وفهمها كاملة.

لكن للأستاذ الصالح قولاً في ذلك: إنه من دون وقت كافٍ لتدريس المادة، سيتراجع مستواهم تدريجياً، وهذا سيؤثر على فرصهم في المرحلة الجامعية، خاصة في الكليات التي تتطلب إتقان لغة ثانية، أو حتى في مجالات البحث العلمي التي تعتمد على مراجع متعددة اللغات.

ويضيف: إن غياب التدريب الكافي يجعل الطلاب عاجزين عن التواصل العملي باللغة، فيكتفون بالحفظ النظري، وهو ما يتعارض مع الهدف الأساسي من تعلم اللغات والتواصل والانفتاح.

احتجاجات أخرى

هذه الأصوات لم تقتصر على ريف دمشق، فقد ظهرت وقفات مشابهة في دمشق، وحلب، وحماة، ودير الزور، وبقية المحافظات.. جميعها طالبت بإعادة النظر في القرار، وتقديم حلول بديلة أكثر عدلاً وواقعية، ومن بين المقترحات: إبقاء عدد الحصص كما هو، أو استبدال أسلوب التدريس بمناهج أكثر مرونة مع الحفاظ على زمن كافٍ للتدريب.

بالتأكيد فإن هذا الحراك كشف عن وعي متزايد لدى الكوادر التعليمية بحقهم في المشاركة بصنع القرار التربوي، وأن التعليم ليس مجرد توجيهات تصدر من المكاتب المركزية، بل هو عملية ميدانية تحتاج إلى فهم الواقع على الأرض.

بين القرارات والواقع

الأستاذ الصالح بين أن القرار الأخير سلط الضوء على الفجوة بين السياسات المركزية وواقع العملية التربوية.. فالوزارة، من وجهة نظرها، تهدف إلى تنظيم الخطة الدراسية وتوزيع الحصص بشكل أكثر توازناً بين المواد، لكن الميدان يرى أن هذه التعديلات لا تراعي خصوصية المواد، خصوصاً اللغات التي تحتاج إلى وقت أطول للتطبيق العملي.

في هذا السياق، دعا المدرسون في الوزارة إلى اعتماد الحوار مع النقابات والكوادر التربوية قبل إصدار أي قرارات مفصلية، وتكون السياسات مبنية على أسس واقعية وليس على حسابات نظرية.

أنظمة تعليم عالمية

وأكد العديد من مدرسي اللغة الفرنسية أنه في أفضل الأنظمة التعليمية عالمياً، يتعلم الطالب ثلاث لغات على الأقل: لغته الأم، الإنكليزية، ولغة أوروبية أخرى، مثل: الفرنسية أو الألمانية، ويتم التركيز على الجودة والأنشطة التفاعلية أكثر من الكم.

لكنه في المقابل، يواجه الطلاب السوريون خطر فقدان فرصة تعلم لغة ثانية بعمق إذا استمر تقليص اللغة الفرنسية، وهذا يضعهم في موقع أضعف عند مقارنة مؤهلاتهم بطلاب دول أخرى، سواء في التبادل الطلابي أم في سوق العمل الدولي.

حق معرفي

أكدت الآنسة هدى عبد الرزاق أن تحرك الكوادر التدريسية ليس بدافع شخصي أو مهني فقط، بل من أجل مصلحة الطلاب، وأن المسألة ليست مرتبطة بعدد حصص المدرس أو نصابه، بل بحق الطالب في تعلم لغة أجنبية ثانية بجدية، هذا حق معرفي لا يجب أن يُختزل في قرار إداري.

عدد آخر من الأساتذة شدد على أن اللغة الفرنسية لا يمكن النظر إليها كمادة هامشية، لأنها تاريخياً شكّلت جزءاً من الهوية الثقافية السورية، وكانت جسراً للتواصل مع العالم العربي والغرب على حد سواء.

نحو رؤية أوسع

يرى خبراء تربويون أن الحل لا يكمن فقط في الدفاع عن الفرنسية، بل في إعادة صياغة سياسة تعليم اللغات في سوريا بشكل عام، فالعالم اليوم يحتاج إلى جيل يتقن أكثر من لغة، ليكون قادراً على مواكبة الثورة التكنولوجية والانخراط في المجتمع الدولي.

من هنا، فإن أي قرار يمس تعليم اللغات يجب أن يكون مدروساً بعناية، وأن يأخذ بعين الاعتبار احتياجات الطلاب، وقدرات المعلمين، وتجارب الدول الأخرى.

وأخيراً.. فإن الاحتجاجات الأخيرة لمدرّسي اللغة الفرنسية في سوريا ليست مجرد اعتراض على تقليص حصص دراسية، بل رسالة واضحة أن التعليم يحتاج إلى شراكة حقيقية مع الكوادر الميدانية، فاللغة ليست مجرد مادة إضافية، بل أداة حياة، وبالتالي يبقى السؤال مطروحاً: هل يمكن لسوريا أن تحافظ على مكانة التعدد اللغوي في مناهجها التعليمية، أم ستكتفي بلغة واحدة في وقت أصبح فيه العالم متعدد الأصوات؟

الجواب سيحدد مستقبل جيل كامل، لأن اللغات ليست مجرد كلمات، بل مفاتيح تفتح أبواب المعرفة والفرص، وأي إغلاق لهذه الأبواب هو إغلاق لمستقبل أبنائنا.

آخر الأخبار
أسماء الفائزين في انتخابات مجلس الشعب بدرعا  أعضاء لجان انتخابية بحلب: مستقبل أفضل للبلاد برلمان جديد يولد من صناديق اقتراع السوريين المطر على الأبواب.. الإسفلت يصل إلى المركز أولاً والضواحي تنتظر تقنيات التعليم وضروراتها في العملية التعليمية طريق دمشق - السويداء يشهد تحسناً ملحوظاً بحركة المسافرين ديمقراطية تتجسد على أرض الواقع..دمشق تنتخب بروح جديدة هل هذه نهاية الحرب في غزة؟ الانتخابات التشريعية .. كيف يراها خبراء وباحثون عرب؟ مشروع بذار الفطر الزراعي.. خطوة رائدة لدعم الأسر المنتجة تمديد مدة الانتخابات في حمص مرسوم رئاسي يقضي بتحديد الأعياد الرسمية في سوريا بين مرحلتين .. السوريون يخطون بتضحياتهم فصلاً جديداً من حريتهم صعوبات التعلم في المراحل الأولى.. كيف نتجاوزها؟ الرئيس الشرع: بناء سوريا مهمة جماعية أطفالنا.. بين تحديات وسائل الاتصال والتربية قطر باتت أبرز حلفاء أميركا.. هل هو عقابٌ لإسرائيل؟ الإعلان عن أسماء المقبولين في مدارس المتفوّقين بالقنيطرة انتخابات اللاذقية.. إقبالٌ لافتٌ لاختيار الأفضل فيدان: انتخابات مجلس الشعب خطوة مفصلية في تاريخ سوريا