حلب تحت تهديد العطش ..الآبار بين الضرورة والاستدامة المفقودة!

الثورة – تحقيق جهاد اصطيف:

تعاني محافظة حلب، كسائر المحافظات السورية، أزمة مائية مركبة تعود جذورها إلى عوامل عديدة، أهمها: التغير المناخي، وتراجع معدلات الهطل المطري، وضعف البنية التحتية، والنزوح السكاني، وآثار الحرب التي امتدت لسنوات، وفي خضم هذه الأزمة، يُنظر إلى الآبار الجوفية على أنها مورد احتياطي شديد الأهمية، ولاسيما في حالات الانقطاع المفاجئ، أو تضرر محطات المياه الرئيسة.. لكن السؤال المطروح هنا: ما مدى جاهزية هذه الآبار؟ وهل تكفي فنياً وكمياً لتلبية الاحتياجات؟ وما الذي ينبغي القيام به لضمان استدامتها كمصدر حيوي للمياه؟

في هذا التحقيق الصحفي نحاول تسليط الضوء على واقع الآبار في محافظة حلب، مع تقديم توصيات يمكن أن تشكل مدخلاً عملياً لمعالجة الأزمة، خاصة في ظل تجاهل مديرية الموارد المائية بحلب لطلبنا الرسمي الذي تقدمنا به منذ أكثر من عشرة أيام للحصول على بيانات رسمية حول هذا الموضوع.

حقائق وبيانات ميدانية

تُظهر المؤشرات أن عدداً كبيراً من الآبار في ريف حلب يعاني من انخفاض إنتاجي ملحوظ، ففي مدينة الباب مثلاً، يشير المجلس البلدي إلى أن محطات الضخ الأربع الرئيسة” سوسيان، الراعي، صندي وغيرها..” لم تعد تؤدي وظيفتها كما في السابق، ففي محطة الراعي وحدها توجد خمس آبار، ثلاث منها خرجت عن الخدمة تقريباً بسبب انخفاض منسوب المياه الجوفية. وتضيف بيانات المجلس: إن التشغيل في هذه المنطقة بات محدوداً جداً، إذ إن بعض الآبار التي كانت تعمل لنحو ست ساعات يومياً، أصبحت اليوم لا تعمل إلا لدقائق معدودة، بالكاد توفر 1000 ليتر من المياه، أي ما يكفي لملء خزان منزلي واحد بسعة خمسة براميل فقط. وفي الوقت الذي خرجت فيه عدة آبار عن الخدمة كلياً، بقيت ثماني آبار فقط تعمل في مدينة الباب بمعدل تدفق يقترب من 40 متراً مكعباً في الساعة للبعض منها.

ويؤكد خبراء أن هذا الانخفاض الحاد في المنسوب الجوفي بات جلياً جداً في شمالي حلب، إذ جفت بعض الآبار تماماً، فيما أصبح إنتاج البعض الآخر محدوداً للغاية، كما أن تزايد الحفر العشوائي وتغير الأعماق المطلوبة لاستخراج المياه رفع من تكاليف التشغيل بشكل كبير.

أرقام ذات صلة

بحسب خبراء إقليميين في شؤون المياه بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فإن سوريا تضم نحو 229 ألف بئر، منها 112 ألف بئر غير مرخصة وفق أحدث التقديرات، وهو ما يمثل تهديداً مباشراً للمخزون الجوفي. ويضيف الخبراء: إن عدد الآبار المستخدمة للري في شمال غربي سوريا- بما يشمل أجزاء من حلب وإدلب والمناطق المحيطة- تضاعف تقريباً بعد عام 2011، إذ ارتفع من نحو 8173 بئراً إلى 16,932 بئراً، هذا التوسع العشوائي أدى إلى انخفاض ملحوظ في مستويات المياه الجوفية، حيث تراوحت نسبة التراجع في حلب وحدها بين 27 بالمئة و 54 بالمئة خلال السنوات الأخيرة.

ويشير مختصون إلى أن خروج عدد من الآبار عن الخدمة لا يرتبط فقط بالجفاف أو انخفاض المنسوب، بل يرتبط أيضاً بعوامل التلوث، فقد تدهورت جودة المياه في بعض المناطق بسبب تسربات من مياه سطحية، أو اختلاط بمياه صرف صحي غير معالجة، أو تدفق ملوثات إلى طبقات تغذية الخزان الجوفي.

الخبير الزراعي المهندس حسن عبد الغفور، يرى أن الكلفة التشغيلية للآبار أصبحت مرتفعة جداً نظراً لتقلب أسعار الوقود والكهرباء، إضافة إلى تكاليف الصيانة وقطع الغيار، يضاف إلى ذلك أن البنية التحتية المرتبطة بالنقل والتوزيع غالباً ما تكون متضررة أو غير كافية، ما يساهم في هدر كميات كبيرة من المياه حتى بعد استخراجها.

كفاية الآبار

ويؤكد عبد الغفور أن اقتصار إنتاج بعض الآبار على تعبئة خزان منزلي واحد يعكس تراجعاً خطيراً في جدوى هذه الموارد، إذ لم تعد تغطي سوى جزء ضئيل من الاحتياجات الفعلية، وفي المناطق الزراعية، إذ يعتمد المزارعون على المياه الجوفية لري محاصيل استراتيجية، فإن الإنتاج المنخفض يهدد بخسائر اقتصادية ويزيد من معدلات الفقر بسبب شح الموارد. ويجمع خبراء على أن أبرز التحديات تتمثل في الحفر العشوائي من دون تنظيم، وغياب أو ضعف تطبيق التشريعات الخاصة بتراخيص الآبار وعمقها، وانتشار الآبار غير المرخصة في الأرياف والتجمعات السكانية، وانخفاض التغذية الطبيعية للخزانات بسبب قلة الأمطار واستمرار موجات الجفاف، وكذلك ارتفاع التكاليف التشغيلية مع تذبذب توفر الكهرباء وغلاء الوقود، ومحدودية الخبرات الفنية اللازمة للصيانة الدورية، ومخاطر التلوث الناجم عن اختلاط المياه الجوفية بالصرف الصحي أو النفايات السطحية، خصوصاً في المناطق التي تعرضت لأعمال عسكرية واسعة.

ويشير الخبير الزراعي عبد الغفور إلى أن بعض الآبار تُستخدم بشكل خاطئ لتصريف مياه الأمطار أو مياه الصرف دون عزل هندسي مناسب، مما يجعلها عرضة للتلوث الجرثومي أو الكيميائي، كما أن التسريبات الكبيرة في شبكات التوزيع القديمة تؤدي إلى هدر نسبة غير قليلة من المياه بعد الضخ.

الجفاف المتكرر

يرى المهندس عبد الغفور أن انخفاض الهطل المطري وزيادة درجات الحرارة خلال العقد الأخير تسببا في معدلات تبخر أعلى، وانخفاض ملموس في تغذية الخزانات السطحية والجوفية، ويشدد على ضرورة ربط إدارة الموارد المائية بالتنبؤات المناخية، مع وضع خطط للطوارئ وزيادة وعي المجتمعات المحلية بكيفية التكيف مع هذه المتغيرات.

وبحسب الخبراء، فإن الآبار- سواء العاملة أم القابلة للإصلاح- لاتزال تمثل عنصراً لا غنى عنه ضمن مزيج الحلول المائية، لكن الاستفادة منها تتطلب استراتيجية متعددة الأوجه، أبرز ركائزها، إجراء تشخيص ميداني شامل وتحديث قاعدة بيانات دقيقة لكل بئر، واستخدام تقنيات المسح الميداني مثل قياس المنسوب والتدفق وجودة المياه، والاستعانة بوسائل حديثة مثل الطائرات من دون طيار أو صور الأقمار الصناعية لرصد التغذية السطحية ومواقع الحفر العشوائي، وتنظيم عملية الحفر بصرامة عبر تراخيص رسمية تحدد العمق وكميات السحب المسموح بها، وفرض عقوبات على الحفر غير المرخص أو التلوث الناجم عن الإهمال، وصيانة البنية التقنية للمضخات وتطويرها للعمل بالطاقة البديلة مثل الألواح الشمسية، وأخيراً إصلاح شبكات النقل والتوزيع للحد من الفاقد.

خبيرة التنمية البشرية لبنى صالح، ترى أن حملات التوعية المجتمعية ضرورية لترشيد استهلاك المياه، سواء في المنازل أو المزارع، كما توصي بإشراك المجتمع المحلي في عمليات صيانة الآبار ومراقبة أدائها، والإبلاغ عن أي أعطال أو انخفاض مفاجئ في الإنتاج. وتقترح تدريب كوادر فنية محلية لتجاوز نقص الخبرات في إدارة الموارد.

تغطية الاحتياجات الاحتياطية

ومن خلال تحليل بيانات ميدانية، يوضح الخبير الزراعي عبد الغفور أن قدرة الآبار الاحتياطية في المناطق الحضرية، مثل مدينة الباب، منخفضة للغاية، أما في المناطق الريفية، فالآبار تؤدي دوراً محورياً في الزراعة، لكنها مهددة بالتدهور السريع ما لم تدر بشكل منظم. وهنا يشير مدير المؤسسة العامة للمياه بحلب المهندس محمد جمال ديبان إلى أن احتياجات المياه في مدينة حلب لا يمكن تغطيتها من خلال الآبار فقط، حيث إن كميات المياه المستخرجة منها لا تكفي لتلبية أكثر من 5 بالمئة من احتياجات المدينة، وبالتالي، فإن الاعتماد على مصدر وحيد كالآبار غير كاف لتأمين المياه بشكل مستدام لسكان حلب.

ويضيف المهندس ديبان: الحفاظ على المياه الخاصة بمدينة حلب من النضوب أو التدهور، يتم عن طريق تقليل استخدام المياه في سد الفرات من أجل توليد الكهرباء، والضغط على الحكومة التركية من أجل منحنا حصة سوريا كاملة من المياه، لأنه يتم الآن منحنا حصة أقل.

وبالنسبة للآبار بحلب والإجراءات المتخذة تجاهها، يؤكد ديبان أنها من اختصاص مديرية الموارد المائية، وكذلك الأمر بالنسبة لأسلوب الري المتبع . أما النقطة الأهم التي توقف عندها مدير المياه بحلب، فتمثلت بخطوات تجهيز الآبار، مؤكداً أن المؤسسة وصلت في خطوات تجهيز وصيانة الآبار لتصبح جاهزة عند الضرورة، تقريباً من أصل 160 بئراً، تم تجهيز نحو 63 بئراً، وتقوم وزارة الطاقة من فترة إلى أخرى في تنظيم حملات توعية من أجل ترشيد استخدام المياه سواء في المدينة أو في الريف.

بين الأمس واليوم

يؤكد خبراء من جديد أن واقع الآبار قبل عام 2011 كان مختلفاً تماماً، إذ كان عددها أقل، والرقابة التشريعية على الحفر أفضل، أما بعد الحرب، فقد توسع الحفر بشكل غير منظم، خاصة في المناطق التي تضررت بنيتها التحتية أو فقدت الدعم الرسمي. ويرى هؤلاء الخبراء أن هناك إمكانات مستقبلية حقيقية إذا ما تبنت السلطات المحلية نهجاً استباقياً يعتمد على استقطاب التكنولوجيا الحديثة، مثل المضخات العاملة بالطاقة الشمسية، وتحسين التشريعات، وتدريب الكوادر الفنية، وتطوير مشاريع إعادة التدوير ومعالجة المياه، فالتغير المناخي يهدد بمفاقمة الوضع إذا لم تتخذ تدابير وقائية للحد من آثار انخفاض الأمطار وارتفاع درجات الحرارة.

توصيات عملية لحلب

انطلاقاً من إفادات الخبراء والمختصين، يمكن تلخيص توصيات عدة بهذا الخصوص أهمها، إنشاء سجل مائي شامل يتضمن بيانات دقيقة لكل بئر (الموقع، العمق، القدرة، حالة التشغيل، جودة المياه، المستخدم)، وإجراء تقييم فني شامل للآبار القائمة لتحديد أولويات الإصلاح والصيانة، وإصدار تشريعات صارمة تنظم عملية الحفر، وفرض رخص تحدد العمق وكميات السحب، وتحسين البنية التحتية لشبكات الضخ والتوزيع، وإصلاح التسريبات لتقليل الفاقد، والاعتماد على مصادر بديلة مثل حصاد مياه الأمطار، وإعادة استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة، وكذلك إجراء فحوص

دورية للمياه للكشف عن الملوحة أو الملوثات الجرثومية والكيميائية، وتعزيز التوعية المجتمعية عبر الحملات الإعلامية، ووضع خطة طوارئ مائية تتضمن تجهيز آبار احتياطية جاهزة للاستخدام، ودعم البحث والتطوير في الدراسات الهيدرولوجية والجيولوجية لتحديد الخزانات، والاستثمار في التقنيات الحديثة مثل الضخ الذكي والمضخات العاملة بالطاقة المتجددة.

السيناريو الأخير

تمثل آبار المياه في حلب خياراً استراتيجياً للتخفيف من الضغط على الشبكات السطحية وضمان استمرار توفير المياه في أوقات الطوارئ، لكن الواقع الميداني يكشف أن معظمها إما شبه عاجز أو يحتاج إلى صيانة كبيرة، وأن إنتاجه لا يلبي سوى نسبة محدودة جداً من الاحتياجات. وإذا أرادت حلب أن تجعل من الآبار مورداً احتياطياً فعالاً ومستداماً، فإن الأمر يتطلب استثماراً جاداً في التشريعات، والبيانات، والبنية التحتية، والتمويل، والمشاركة المجتمعية، وإلا فإن هذه الآبار ستبقى مجرد عنصر من عناصر الأزمة، لا من عناصر الحل.

آخر الأخبار
"حبة دوا".. مبادرة إنسانية تنقذ آلاف المرضى لقاح الحصبة.. الوقاية خير من العلاج بين الركام والنقل.. فرص الاقتصاد الضائعة بين الأنقاض! الجرح الذي لا يُرى.. أزمة الصحة النفسية في سوريا بعد الحرب مديرة تضرب الطلاب بعنف والوزارة تستفيق بعد انتشار فيديو الفضيحة! أهالٍ من معرة حرمة يرممون شبكات الصرف الصحي منظمة الدول التركية تؤكد دعمها لوحدة سوريا واستقرارها لجنة التحقيق الدولية تؤكد استمرار عملها في السويداء لن يكتمل مشهد مجلس الشعب من دون المرأة حلب تحت تهديد العطش ..الآبار بين الضرورة والاستدامة المفقودة! التوقف الدولي بين الواجب الوطني وحسابات الأندية وسط غيابات مؤثرة وتحديات إدارية ومالية ...منتخبنا الوطني يبحث عن حسم التأهل أمام ميانمار قرار استثنائي من الـ (UEFA) بالسماح بإقامة مباريات محلية خارج أوروبا الطريق إلى مونديال 2026.. خطوة تفصل مصر والجزائر عن التأهل دوري أبطال أوروبا للسيدات.. برشلونة يكتسح بايرن ميونيخ بسباعية وسقوط حامل اللقب ميداليتان فضيتان للكيك بوكسينغ في إفريقيا بعد تراجع الداعم .. نادي الشعلة في موقف حرج من الدوري الحر إلى الممتاز.. أمية وخان شيخون يبداأن رحلة جديدة في كرة القدم السورية المكسيك تُقصي الدولة المضيفة من مونديال الشباب الكرة الصفراء ..دجوكوفيتش إلى ربع نهائي دورة شنغهاي وتأهل سهل لشفيونتيك في ووهان