الثورة – إيمان زرزور
مثلت تصريحات رئيس إقليم كردستان العراق، نيجيرفان بارزاني، الأخيرة بشأن الشأن السوري نقطة تحوّل لافتة في الموقف الكردي الإقليمي، إذ لم يسبق أن دعا مسؤول كردي بهذا الوضوح إلى العودة السياسية إلى دمشق، وفتح مكتب رسمي للأكراد السوريين هناك.
تأتي هذه الدعوة في مرحلة شديدة الحساسية من عمر الدولة السورية الجديدة، حيث تتقاطع ملفات الحوار الداخلي مع الجهود الإقليمية لإعادة رسم التوازنات السياسية بعد الحرب. في خطابه خلال منتدى معهد الشرق الأوسط للأبحاث في أربيل، اختار بارزاني لغة حاسمة حين قال إن سوريا تمرّ بـ”فرصتها الأخيرة”، موجهاً رسائل متعددة الاتجاهات، فمن جهة، حمّل الأكراد السوريين مسؤولية اتخاذ قرار وطني مستقل، ودعاهم إلى الكفّ عن انتظار الحلول الدولية. ومن جهة أخرى، وجّه إشارات إيجابية إلى دمشق تؤكد أن أربيل تنظر إلى الدولة السورية بوصفها مركز الحل وليس العقبة أمامه، وهذا التحوّل في الخطاب يعكس إدراكاً كردياً متزايداً بأن استمرار الانكفاء في شمال شرقي سوريا، تحت مظلة عسكرية أو خارجية، لم يعد مجدياً، وأن الانخراط السياسي هو السبيل الوحيد لضمان المكاسب التي تحققت خلال سنوات الحرب. لم يكتفِ بارزاني بالدعوة إلى الحوار، بل قدّم تصوراً صريحاً لطبيعة النظام السياسي الذي يراه مناسباً لسوريا الجديدة، مؤكداً أن “الحكم المركزي لم يعد قابلاً للحياة في بلد متعدد المكونات”، هذا الطرح، وإن كان يتماهى مع الخطاب الكردي التقليدي حول اللامركزية، إلا أنه هذه المرة جاء بمنطق وطني جامع لا ينادي بالانفصال، بل بإعادة توزيع السلطة ضمن الدولة الواحدة.
تلك المقاربة تلتقي إلى حدّ كبير مع الخط السياسي الذي أعلنه الرئيس أحمد الشرع في خطاباته الأخيرة حول بناء دولة المواطنة وتكريس التعددية السياسية، ما يجعل دعوة بارزاني تبدو أقرب إلى دعم مسار سياسي سوري داخلي أكثر منها مبادرة خارجية.
منذ سنوات، التزمت حكومة إقليم كردستان سياسة الحذر في مقاربة الملف السوري، خوفاً من التورط في صراع إقليمي معقد، إلا أن خطاب بارزاني الأخير يعكس تحوّلاً نحو الانخراط البنّاء، وتبنّي موقف أكثر وضوحاً في دعم الحوار بين دمشق والأكراد السوريين. ويبدو أن هذا الموقف نابع من إدراك متزايد لدى أربيل بأن استمرار التشتت الكردي في سوريا يفتح المجال أمام تدخلات حزب العمال الكردستاني، وهو ما حذّر منه بارزاني صراحة، حين قال إن “تدخل الحزب يمنع أي تقدم سياسي ويُبقي المنطقة رهينة الصراع”. التحذير هنا يحمل دلالتين: الأولى أن أربيل تريد قطع الطريق على أنقرة في استخدام ذريعة “العمال الكردستاني” لتبرير تدخلاتها العسكرية، والثانية أنها تسعى لتثبيت نفسها وسيطاً شرعياً ومقبولاً في الملف الكردي السوري.
من الزاوية الجيوسياسية، فإن دعوة بارزاني للأكراد إلى فتح مكتب سياسي في دمشق تمثل مؤشراً على بداية مرحلة جديدة من إعادة الاصطفاف الكردي في المنطقة، وتفاهم ضمني على أن العاصمة السورية هي المسار الواقعي لأي تسوية مستقبلية. ويقرأ محللون هذه الخطوة على أنها محاولة لإعادة وصل ما انقطع بين الكرد ودمشق بعد سنوات من التوتر، خصوصاً في ظل التحولات السياسية بعد اتفاق العاشر من آذار، الذي أعاد طرح مشروع دمج القوات الكردية في المؤسسات السورية الرسمية. كما أن تأكيد بارزاني على أن الأكراد يجب أن “يكونوا أصحاباً في وطنهم لا ضيوفاً فيه”، يعكس فهماً عميقاً للتغيرات التي تشهدها السياسة السورية، إذ لم يعد النظام الجديد يستند إلى الإقصاء، بل إلى مفهوم الشراكة الوطنية المتكافئة.
وتوقف بارزاني مطولاً عند فكرة أن “عصر الحروب الكردية – الكردية قد انتهى”، في إشارة واضحة إلى ضرورة تجاوز الانقسامات الحزبية التي عطلت لسنوات أي مشروع موحّد للأكراد في سوريا. هذا الخطاب لا يستهدف الداخل الكردي فقط، بل يوجّه رسالة إلى القوى الإقليمية مفادها أن أربيل لم تعد ترغب في أن تكون أداة ضمن صراعات الآخرين، بل فاعل سياسي يسعى إلى استقرار إقليمي قائم على المصالح المشتركة.
في المحصلة، تكشف مداخلة نيجيرفان بارزاني عن تحول نوعي في التفكير الكردي الإقليمي، من التمسك بالمناطق إلى التمسك بالمشاركة، ومن الارتهان العسكري إلى الانفتاح السياسي، ودعوة أربيل للأكراد السوريين إلى دمشق تمثل ترجمة لاقتناع متزايد بأن سوريا الجديدة تُبنى من الداخل، وأن وحدة الدولة لا تتناقض مع حقوق المكوّنات، بل تكتسب معناها الحقيقي من خلالها.