الثورة – ميسون حداد:
منذ مطلع تشرين الأول، بدأ السوريون يلحظون ظهور الإعلانات المموّلة عبر منصّات التواصل الاجتماعي، بعد إعادة شركة “ميتا” تفعيل أدواتها الإعلانية جزئياً في خطوة تعيد سوريا إلى الخريطة الرقمية العالمية بعد أكثر من عقد من العزلة الإلكترونية.
تمثل هذه العودة انطلاقةً لمرحلة جديدة تتقاطع فيها التكنولوجيا مع الاقتصاد والإبداع الرقمي، ومع ظهور مؤشرات التغيير، يبرز سؤال جوهري حول مدى جاهزية السوق السورية للانخراط في الاقتصاد الرقمي، وسط فرصٍ واعدة وتحدياتٍ قائمة تتعلق بالبنية التقنية ووسائل الدفع والكوادر المتخصصة.
التسويق الرقمي السوري
كان المشهد قبل إعادة التفعيل مغلقاً تماماً أمام المعلنين السوريين، فلم يكن هناك أي قناة رسمية أو مباشرة للإعلان الممول الذي يستهدف الجمهور السوري بدقة، لذلك لجأ المسوّقون إلى حلول بديلة غير مستقرة أو مضمونة النتائج، مثل التعاون مع صفحات مؤثرة أو مؤسسات إعلامية تمتلك جمهوراً واسعاً داخل سوريا أو خارجها، هذا ما أوضحه المدرب الحاصل على “CIM” البريطانية في التسويق الالكتروني رئبال مرهج لـ “الثورة”.
لجأ البعض أيضاً إلى استخدام حسابات إعلانية أُنشئت في الخارج لإدارة الحملات، يقول مرهج، ويتابع: “هذه طرق مكلفة ومحدودة التأثير، كما أنها لم تكن تتيح للمسوّقين القدرة على قياس النتائج بشكل دقيق أو تقييم العائد على الاستثمار”.
اليوم، ومع إعادة تفعيل ميتا للإعلانات بشكل جزئي، بدأت بعض الصفحات السورية تلمس إمكانية استهداف الجمهور المحلي بشكل مباشر، لكن ضمن حدود محددة، ويشير مرهج إلى أنّ الإعلانات الموجهة للجمهور السوري تعمل فقط على الصفحات التي لم تُسجَّل ضدها قيود سابقة، وغالباً ما تكون هذه الصفحات قد أُنشئت أو أُديرت من خارج سوريا.
ويضيف أنّ هناك قيوداً تقنية وقانونية لاتزال قائمة، من أبرزها غياب وسائل الدفع المباشر داخل البلاد، واستمرار الرقابة المشددة على النشاطات الإعلانية المرتبطة بالحسابات السورية.
عقبة الدفع الإلكتروني
وفيما يتعلق بوسائل الدفع، يرى مرهج أن المشهد لايزال معقداً، فحتى الآن لا يمكن للمعلنين في الداخل السوري إجراء عمليات الدفع الإعلاني بشكل مباشر، إذ تتم هذه العمليات عبر حسابات مالية أو بطاقات مصرفية خارجية مرتبطة بالحسابات الإعلانية.
وغالباً ما يعتمد المسوّقون على وسطاء أو شركاء في دول مجاورة لتفعيل الإعلانات، ما يضيف أعباء مالية وتنظيمية على الحملات المحلية، رغم أن هذا التطور يبقى أفضل من مرحلة المنع الكامل السابقة.
ورغم كل التحديات، يصف مرهج خطوة “ميتا” بالفرصة الاستراتيجية لإعادة دمج السوق السورية في المنظومة الرقمية العالمية، ويقول: “إنّ هذا الانفتاح يمكن أن يعزز حضور المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ويحفز التجارة الإلكترونية داخلياً وخارجياً، ويفتح الباب أمام الاستثمارات في قطاعات رقمية ناشئة”.
ويشير إلى أن أكثر القطاعات المتوقع استفادتها هي السياحة، عبر الترويج للمواقع والخدمات الفندقية، والتعليم عن بعد، من خلال حملات استقطاب للطلاب والدورات الالكترونية، إلى جانب التجارة الالكترونية والخدمات الرقمية، وخصوصاً المتاجر الصغيرة التي تسعى للوصول إلى جمهور أوسع، ويضيف مرهج: “إنّ هذه القطاعات يمكن أن تشكّل نواة لاقتصاد رقمي جديد في سوريا إذا استمر فتح الإعلانات بشكل مستدام”.
لكن هذه الفرص ترافقها تحولات في سوق العمل أيضاً، إذ يفتح المجال أمام ظهور تخصصات جديدة، فالمرحلة المقبلة ستتطلب خبراء يمتلكون معرفة تقنية وعلمية في إدارة الحملات الإعلانية وتحليل البيانات وتصميم المحتوى واستراتيجيات الاستهداف، ويبيّن مرهج أنّ هذا الاتجاه سيخلق فرص عمل للمستقلين والوكالات الصغيرة القادرة على إدارة الحسابات الإعلانية عن بُعد، ما يعزز من ثقافة العمل الرقمي التي تتجاوز الحدود الجغرافية.
تحديات السوق الرقمية
في المقابل، تبقى التحديات قائمة ومستمرة، ويصف مرهج أبرزها بأنها ضعف البنية التحتية للدفع الإلكتروني داخل البلاد، ونقص الكفاءات المتخصصة في التسويق الرقمي، وغياب التدريب على أدوات ميتا وخوارزمياتها.
ولمواجهة هذه العقبات، يقترح الاستثمار في برامج تدريب محلية أو عبر الانترنت لتأهيل المسوّقين السوريين.
أما عن المخاطر المحتملة، فيحذّر مرهج من أنّ أي تراجع جديد من جانب “ميتا” في المستقبل سيشكل ضربة قوية للمشاريع الصغيرة والناشئة التي تعد المستفيد الأكبر حالياً من الوصول الرقمي المباشر.
ويضيف: “إنّ هذا التراجع، إن تم، قد يعيد السوق السورية إلى حالة العزلة الرقمية، ويحرمها من أداة أساسية في التوعية المجتمعية، إذ تُستخدم الإعلانات المموّلة أيضاً لأغراض صحية وتعليمية واجتماعية، وليس فقط تجارية”.
وبين الحذر والأمل، يبدو أن سوريا تقف اليوم على أعتاب مرحلة رقمية جديدة. فبينما تفتح “ميتا” باباً طال إغلاقه، يبقى السؤال: هل ستنجح السوق السورية في اقتناص الفرصة وتأسيس بيئة اقتصادية رقمية قادرة على المنافسة والاستدامة؟
المشهد الاقتصادي الرقمي
يحمل قرار شركة “ميتا” بوادر تحول نوعي في المشهد الاقتصادي الرقمي، وبحسب الأكاديمي والمستشار الاقتصادي الدكتور زياد أيوب عربش، تعتبر هذه الخطوة فرصة واختباراً في الوقت ذاته، لإثبات جاهزية السوق المحلية وقدرتها على الانخراط في الاقتصاد الرقمي العالمي. ويشير د. عربش في حديث لـ”الثورة” إلى أن السماح بالإعلانات الممولة على منصات مثل فيسبوك وانستغرام يفتح نافذة واسعة أمام الشركات الصغيرة والمتوسطة لتوسيع حضورها وتسويق منتجاتها بفعّالية أكبر.
ويضيف: “إنّ أدوات الاستهداف الدقيقة تُمكّن أصحاب المشاريع من الوصول المباشر إلى جمهورهم المستهدف، ما يعزز الطلب الداخلي وينشط التجارة الالكترونية، ويقلل الاعتماد على أساليب التسويق التقليدية محدودة التأثير”.
فرص التوسع الإقليمي والدولي
يسهّل الإعلان الممول استهداف الأسواق الإقليمية والدولية عبر خيارات دقيقة تشمل الموقع الجغرافي والفئة العمرية والسلوك الشرائي، ويظهر وجود تحديات حقيقية، أبرزها ضعف البنية التحتية للدفع الإلكتروني وغياب قنوات تمويل محلية، موضحاً أنه لا تزال الشركات السورية مضطرة لاستخدام حسابات مالية خارجية أو بطاقات مصرفية أجنبية لإدارة حملاتها، وهو ما يحدّ من انتشارها ويزيد من تكلفتها التشغيلية”.
ويبين د. عربش أن الاعتماد على العملات الأجنبية في الدفع الإعلاني يشكل تحدياً إضافياً، نظراً لتقلب أسعار الصرف وصعوبة التحويل، ويبين عربش أن بعض الشركات تضطر إلى رفع ميزانيات الإعلان أو التعاون مع وسطاء ماليين في الخارج، ما يخلق عبئاً مالياً وتنظيمياً على المشاريع الصغيرة.
ويؤكد أن المرحلة المقبلة تتطلب ابتكار حلول مالية محلية أكثر مرونة، وتكييف استراتيجيات الإعلان مع الواقع الاقتصادي والقيود المصرفية.
ويشير د. عربش إلى أن عودة الإعلانات الممولة ستسهم في تحفيز سوق العمل الرقمية، إذ تولّد طلباً على خدمات التسويق الإلكتروني، تصميم المحتوى، تحليل البيانات، وإدارة الحملات، ويضيف: “تفتح هذه التحولات الباب أمام فرص عمل جديدة في مجالات التكنولوجيا والإعلام الرقمي، وتعزز ديناميكية سوق العمل السوري نحو المهارات الحديثة والمستقبلية”.
المخاطر الثقافية والرقابة على المحتوى
يحمل تفعيل الإعلان الممول إمكانية وجود مخاطر مرتبطة بالمحتوى الإعلاني، فقد يجلب الانفتاح الرقمي أشكالاً من الدعاية التي لا تنسجم مع القيم أو الحس الاجتماعي المحلي.
لذلك، يشدد د. عربش على أهمية الوعي المجتمعي ووجود رقابة مهنية على المحتوى، مما يمكن أن يحد من هذه الظواهر، ويضمن توجيه الإعلانات نحو أهداف تنموية وإيجابية.
وفي سياق آخر، يوضح عربش أن الفئات الأكثر اتصالاً ومعرفة رقمية قد تستفيد أكثر من غيرها من المهارات والفرص، ما يوسع الفجوة الرقمية مع من لا يملكون المعرفة والقدرة على الاتصال، لذلك بات الاستثمار في التعليم الرقمي وتوسيع الوصول إلى الإنترنت والبنية التحتية التقنية ضرورة ملحة لمواكبة التطورات.
وبما يخص جاهزية البنية الرقمية في سوريا، فلا تزال البنية التحتية تواجه تحديات بنيوية، وبحسب د. عربش تتمثل في ضعف الاتصال بالإنترنت، ونقص أنظمة الدفع الالكتروني، والحماية السيبرانية المحدودة، وهو ما يتطلب تطويراً ممنهجاً واستثمارات مستمرة لتتمكن السوق من استثمار التأثيرات الإيجابية لفتح الإعلانات الممولة عبر ميتا.
ويؤكد د. عربش أن فتح باب الإعلانات الممولة يمثل بداية مرحلة جديدة في التحول الرقمي، لكنه يشدد على أن النجاح يتطلب استثماراً في المعرفة، تأهيل الكفاءات، وبنية مالية وتقنية مستدامة، ويختم: “إنّ نجاح هذه التجربة لا يُقاس فقط بحجم الإعلانات، بل بمدى قدرتها على خلق فرص اقتصادية حقيقية وتحسين التفاعل بين المنتج والمستهلك داخل سوريا وخارجها”.