الثورة – عبد الحميد غانم:
تحديات كبيرة تواجه محصول القمح في سوريا ليست وليدة الصدفة، بل هي نتيجة تراكمية لسنوات من الحرب والتغير المناخي والسياسات غير الفعالة.
من خلال بيانات وزارة الزراعة، نلمس محاولة لمعالجة هذه التحديات عبر خطة طموحة للموسم 2025-2026. وتهدف الخطة إلى زراعة 1,4 مليون هكتار بالقمح بحسب رئيسة قسم التخطيط الإنتاجي بوزارة الزراعة المهندسة ميساء حايك، ومتوقعة إنتاج 2,8 مليون طن، ما يغطي 60 بالمئة من الاحتياج.
هذه الأرقام تبدو مشرقة نظرياً، لكنها تثير تساؤلات حول مدى واقعيتها في ظل الظروف الراهنة. وتعتمد الوزارة على منهجية تخطيطية شاملة تراعي المحددات المائية واستعمالات الأراضي واحتياجات التصنيع المحلي. وقد أولت الأولوية – بحسب المهندسة حايك – للقمح كسلعة استراتيجية، مع التركيز على تحسين دخل المزارعين. كما اهتمت بالبذار المعتمد والمغربل، مستندة إلى خريطة صنفية متطورة تشمل أصنافاً مختلفة للمناطق المروية والبعلية.
لكن يبقى السؤال: هل تكفي الخطة الطموحة، لمواجهة واقع متعثر تجاوزت فيه نسبة العجز 80 بالمئة؟.
تشريح الواقع
بحسب الخبير الزراعي المهندس حسام القصار عضو مجلس إدارة جمعية حماية المستهلك، فإن الصورة الحقيقية أكثر قتامة بكثير. فالإنتاج الحالي لا يغطي سوى 19 بالمئة من الاحتياج، وهو أدنى مستوى تشهده سوريا منذ عقود، وهذه المفارقة مؤلمة لدولة كانت تحقق فائضاً تصديرياً يصل إلى 1,5مليون طن.
ويحدد الخبير الزراعي أبعاد الأزمة المتشابكة، والمتمثلة بالكارثة المناخية، حيث تواجه سوريا موجة جفاف هي الأسوأ منذ الستينيات، ولم تتجاوز معدلات الأمطار 25 بالمئة من معدلاتها السنوية، فالتغير المناخي الحاد يفاقم أزمة المياه، خاصة في المناطق البعلية التي تشكل 57 بالمئة من المساحة المخطط زراعتها. إلى جانب إرث الحرب المدمر، والكلام للقصار، إذ أدت سنوات حرب النظام المخلوع إلى نزوح المزارعين، وتدهور الأراضي، وتدمير البنية التحتية الزراعية.
كما أن الكثير من الأراضي في المنطقة الشرقية – قلب إنتاج القمح – خارج سيطرة الحكومة، ما يعني استبعادها من الإحصائيات الرسمية. فضلاً عن الاختناق الاقتصادي، إذ يشكل ارتفاع تكاليف الإنتاج عبئاً لا يطاق للمزارعين، ويقول القصار: ارتفعت أسعار المستلزمات الزراعية من أسمدة وبذار ومحروقات، بينما انخفضت أسعار المحاصيل وتذبذبت، وهذه المعادلة الخاسرة دفعت الكثيرين إلى التحول لمحاصيل أقل تكلفة وأكثر ربحاً.
ويضيف: كذلك فشل السياسات الداعمة، إذ يعاني نظام الدعم الزراعي من قصور كبير، حيث لا تغطي أسعار الشراء الرسمية التكاليف، ويظل التأمين الزراعي غائباً، وتتسم القروض الزراعية بالضعف والتعقيد البيروقراطي.
تداعيات مقلقة
ويرى الخبير الزراعي، أن أزمة القمح تمثل تهديداً مباشراً للأمن الغذائي السوري، حيث يؤدي العجز، كما يبين المهندس القصار، إلى اعتماد متزايد على الاستيراد، ما يستنزف العملة الصعبة، ويرفع أسعار الخبز والمواد الغذائية الأساسية، ما يزيد الأعباء المعيشية، فضلاً عن تهديد الاستقرار الاجتماعي في بلد يعاني أصلاً من أوضاع اقتصادية صعبة، ويفاقم الفقر والبطالة في المناطق الريفية.
لعلاج هذا الواقع، يقترح الخبير الزراعي حزمة من الإجراءات العاجلة، أهمها: إدارة الموارد المائية، عبر تطوير برامج ترشيد استخدام المياه، وتحديث نظم الري، وإنشاء السدود الصغيرة لحصاد مياه الأمطار. وكذلك تطوير البذور والتقنيات واعتماد أصناف مقاومة للجفاف والملوحة، وتطوير تقنيات الزراعة الذكية مناخياً. فضلاً عن إصلاح نظام الدعم وتوفير دفع مباشر للمزارعين، وتسهيل الحصول على القروض، وتطوير نظام التأمين الزراعي، والكلام للقصار.
ويتطرق إلى أهمية إعادة تأهيل البنية التحتية وبناء وتحديث الصوامع والمستودعات ومراكز الاستلام، وتنويع المحاصيل من خلال تشجيع زراعة محاصيل بديلة تتحمل الجفاف كالعدس والحمص.
على أي حال، من وجهة نظر الخبير الزراعي، تمثل أزمة القمح في سوريا اختباراً حقيقياً لجدية السياسات الزراعية وقدرة البلاد على مواجهة التحديات المناخية والاقتصادية.
ويعتبر أن النجاح في معالجة هذا الواقع، كما يشير الخبير الزراعي، يتطلب إرادة سياسية حقيقية، وخطة عمل شاملة، ودعماً غير مشروط للمزارع السوري.
ويشير إلى أن الخيارات واضحة، إما الاستمرار في التخطيط النظري البعيد عن الواقع، أو تبني إستراتيجية شاملة تعيد إحياء “سلة الخبز” السورية، مستفيدة من التجارب الناجحة كتجربة العراق في تحقيق الاكتفاء الذاتي.
وختم بالقول: “إن إنقاذ زراعة القمح في سوريا ليس مجرد مسألة تقنية، بل هو قضية وجودية تتعلق بسيادة الغذاء واستقرار المجتمع، والوقت يداهمنا جميعاً”.