كلما عاد الإنسان إلى مرحلة البناء، تذكر أيام الشقاء، وأصبح حبيساً للماضي والذكريات، لكون تلك المرحلة قد استنزفت وقته وجهده وقوته، وكي يرتاح من تلك الذاكرة المفعمة بالعذاب، عليه النظر للمرحلة الجديدة التي وصل إليها بفضل ذلك الجهد، إذ لايعقل للمتفوق دراسياً والذي حصل على الفرع الذي أراده أن يتذكر فقط أيام السهر والقراءة، بل عليه أن ينظر إلى تلك اللحظة التي يعيشها، حتى لا يؤدي به الأمر إلى جلد ذاته والآخرين.
فالدعوة إلى التغيير بالمفهوم التصالحي ليست نكراناً للجذور، بل عودة إليها، ولكن بلغة العقل والمنطق، لأن من لا أصل له، تقتلعه أول ريح، لكن الأصل لا يتم التمسك به ليكبلنا، بل لنتغذى من عروقه.
والثبات الحقيقي ليس في الوقوف على أكتاف الماضي، بل في القدرة على النزول عنه بثبات دون الوقوع، والسير على دروب المستقبل، ونسيان كل التعب والصعوبات والعراقيل وكل ما يكدر الخواطر ويشوش الأذهان، ما يعني أن احترام الماضي لا يعني السكن فيه، بل الخروج منه إلى الحياة والهواء والماء، وإلا بقي الجنين في رحم أمه، آكلاً شارباً نائماً يحيط به الهدوء، تماماً كما تُروى الشجرة لا لتقتل جذورها، بل لتستعيد خضرتها، وبالتالي التعايش مع كل الظروف الجوية والمناخية المحيطة.
والتغيير يبدأ من الذات، ثم إلى المحيط، وهكذا حتى تتسع الدائرة وتتضح خطوطها ومعالمها، لتعم المكان والأوطان، عندها فقط تبدأ الحياة من جديد.