الثورة – علاء الدين محمد:
حين يشعر الكاتب والأديب بضيق المكان الذي هو فيه، يذهب إلى المقهى دون تردد ليبدد ضجره، فهو الملاذ والملجأ لاحتضان انفعالات الكتّاب ومشاغباتهم، وكم من حوارات ونقاشات فكرية، سياسية، واجتماعية احتضنتها المقاهي؟، وكانت الشاهد الوحيد على كل ما يحدث، بل والمحرض على المنافسة والإبداع؟.
حول هذا الموضوع، التقت الثورة بالأديب والكاتب الدكتور طارق العريفي، أستاذ الأدب في جامعة دمشق، الذي حدثنا عن الرمزية الثقافية للمقهى، فقال: “إن المقهى أكثر من مجرد مكان لتناول القهوة، فهو فضاء رمزي يعكس تحولات المجتمعات واهتمامات أجيال المثقفين.
في التاريخ العربي والأوروبي على حد سواء، كان المقهى منصة لتبادل الأفكار والنقاشات الحرة، وحاضنة للوعي الاجتماعي والفكري، ما جعله علامة فارقة في تشكيل هوية فكرية معينة.
فالمقهى الذي يتكون من طاولة وكوب قهوة، هو أيضاً مساحة ثقافية يستطيع الفرد من خلالها أن يعلن عن انتمائه الفكري ويمارس حرية التفكير بعيداً عن قيود النمطية والتقاليد المجتمعية الصارمة”.
المقهى كمنصة للإبداع
وأضاف العريفي: “إن المقهى كفضاء مفتوح يتيح للمثقف التعبير عن هويته الفكرية بطريقة غير مباشرة من خلال التفاعل مع الآخرين، والانخراط في نقاشات حرة، واختيار الكتب أو المقالات التي يقرأها، وحتى في طريقة جلوسه واختياراته الجمالية.
هذا التعدد في التجارب واللقاءات يجعل المقهى مرآة للمجتمع، لكنه في الوقت ذاته منصة لتشكيل وعي مستقل، بعيداً عن التأثيرات السائدة أو التوجيهات الرسمية”.

المقهى الأدبي رمزية فكرية
“ولعل هذا ما يفسر استمرار فكرة “المقهى الأدبي” الذي احتضن شعراء، كتابا، ونقّاداً على مر العصور، إذ أصبح الرمز نفسه للمقاومة الفكرية والإبداعية، “كما بين الدكتور العريفي أن هناك عدداً من الكتاب في أدبنا العربي، الذين ارتادوا المقاهي وتفاعلوا معها فكرياً واجتماعياً، منهم الكاتب نجيب محفوظ الذي كان يتردد على المقاهي الأدبية في القاهرة مثل مقهى “ريش”، إذ كان يلتقي بالزملاء ويشارك في النقاشات الثقافية.
ومنهم الكاتب جبران خليل جبران الذي كان يجد في المقاهي أماكن لقاء وتبادل للثقافات والأفكار، ما ساعده على إثراء رؤاه الفلسفية والأدبية، ومن هؤلاء أيضاً الشاعر سعد الله ونوس، الذي كان كثيراً ما يتواجد في المقاهي الأدبية لتبادل الأفكار حول المسرح والكتابة، وساعدته هذه النقاشات على تطوير نصوص مسرحية تحاكي المجتمع السوري بأسلوب نقدي وإنساني.
وكذلك الشاعر نزار قباني الذي كان يحب الجلوس في مقاهي دمشق وريفها، إذ التقى بأصدقائه من الشعراء والفنانين، وناقشوا فيها الشعر والفكر والثقافة، الكثير من قصائده الرومانسية والسياسية تأثرت بهذه اللقاءات والتبادل الثقافي.
الانغلاق الاجتماعي
أما فيما يتعلق بأثر الانغلاق الاجتماعي على الفكر، فإن الصور التقليدية للأماكن المغلقة لا يمكن اعتبارها عاملاً لتقليص الإبداع والتأمل العميق، فالكثير من الروائيين والشعراء والمفكرين وجدوا في انفرادهم بالأفكار وابتعادهم عن ضوضاء الحياة اليومية فرصة لصقل رؤاهم وصياغة أعمالهم.
وبالمقابل، يمكن للأماكن التقليدية المغلقة فرض قيود على التفاعل الاجتماعي والنقد البناء، ما يؤدي أحياناً إلى تكريس رؤية واحدة وتقليص مساحة الابتكار.
العزلة كمصدر للإبداع
ومثلما ارتاد الشعراء والأدباء المقاهي لتنويع ثقافاتهم وتلاقحها، هناك من فضّل اعتزال تلك الأماكن والابتعاد عن صخبها لكي يركزوا في طرح أفكارهم وتبويبها بصورة تتناسب مع إبداعهم الشعري والأدبي، نذكر منهم عميد الأدب العربي طه حسين، الذي كان يقضي فترات طويلة منعزلاً في غرفته، مخصصاً وقتاً طويلاً للقراءة والكتابة والتفكير، أسلوبيته النقدية العميقة وأعماله مثل “الأيام” جاءت نتيجة هذه العزلة المركزة.
وكذلك الكاتب العراقي أحمد مطر، الذي تميزت بعض كتاباته بالعزلة والابتعاد عن الضوضاء الاجتماعية لممارسة الكتابة الساخرة والناقدة، ومنهم الشاعر محمود درويش الذي، رغم مشاركته في النشاط السياسي، كان يعتمد على العزلة في كتابة أشعاره، إذ يختلي بنفسه أحياناً لإخراج التجربة الشعورية بأصدق صورة، وكذلك الروائي فواز حداد الذي يُفضِّل العزلة على ارتياد المقاهي، وله أكثر من تسعة عشر مؤلفاً هي نتيجة لتلك العزلة، ولكنها تُصوِّر الحالة السورية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بدقة.

الفضاء المفتوح والانغلاق
قال الدكتور العريفي: “سيظل المقهى رمزاً ثقافياً يجمع بين الانفتاح والتواصل والإبداع، في حين تمثل العزلة المنضبطة أداة للتركيز وصقل الفكر.
كلاهما، “الفضاء المفتوح والانغلاق”، يمكن أن يثري العملية الفكرية، لكن الاستخدام الواعي لهذه المساحات هو ما يحدد نجاحها في تكوين هوية فكرية متكاملة، فالرمزية الثقافية للمقهى تكمن في كونه فسحة حرية، بينما تكمن قيمة الانغلاق الإبداعي في تحويل الصمت إلى مادة للإنتاج الفكري والفني”.