ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير: علي قاسم
يطلق الغرب ماكينة «بروباغندا» سياسية لتجيير مقاربة تحاول في بعض جوانبها أن تلحق أو تستدرك بعضاً مما يحدث من تدحرج في الأحداث غير المحسوبة، أو قلبٍ لبعض المعادلات الرائجة، بدءاً من التورية في الانقلاب التركي وصولاً إلى قمة بطرسبورغ وما سبقها أو لحق بها من تطورات ميدانية،
وليس انتهاء بعودة ثالوث العدوان الأميركي البريطاني الألماني إلى اللعق من قاع الافتراءات، والعودة إلى النبش في الأوراق القديمة، وهم يحصون أوراقهم المحترقة في الميدان السوري.
بداية … قيل الكثير وسيقال ما هو أكثر عن لقاء سان بطرسبورغ.. انطلاقاً من التحليلات والاستنتاجات والقراءات، مروراً بالادعاءات والمزاعم.. وصولاً إلى المعطيات أو المعلومات، سواء كانت فعلية أم مفتعلة، لكن أيضاً هناك ما لمّا يُقَلْ بعد لأسباب بعضها موضوعي وكثير منها ذاتي، يتعلق بجملة من الاعتبارات الخاصة بالوضع التركي ذاته، والعلاقة الروسية التركية، وتداعيات الاصطفاف داخل المشهد الدولي، والمقاربات التي قد تصلح لمحاكاة ما ينتج سياسياً وميدانياً.
في المعطيات الموضوعية.. نستطيع -كما يستطيع غيرنا- أن نجزم بأن ما قيل ليس كل الحقيقة، وحتى التسريبات المحمولة على بعض التكهنات لا تستطيع أن تحيط بتفاصيل وجزئيات ما جرى، والأهم أن الكثير منها ليس للتداول، وسيكون من الصعب على أحد أن يسرد تفاصيلها كاملة حتى لو كان حاضراً وشاهداً داخل القاعة، وهو أمر يصعب الحسم فيه، ومدى حرفية ما تم تناقله لأسباب أيضاً موضوعية وذاتية.
على المقلب الآخر تحمل أغلب الاستنتاجات، حتى تلك التي تسرعت في إطلاق أحكامها، شيئاً من الحقيقة، وإن بدت أحياناً مواربة، أو غير كاملة، حيث الفارق بين الاستنتاج والآخر كان أقرب إلى الشكل منه إلى المضمون، وهذا ينسحب على نقاط الاتفاق والاختلاف في الآن معاً، فالمقاربة التي صدّرتها البيانات الرسمية كانت تحمل تلك السمة، وتحاول أن تقدم في بعض ملامحها ما هو قائم فعلياً، لكنها أبقت على بعض التخمينات التي يصعب الجزم بمدى صدقيتها وسط سيل من المؤشرات الميدانية التي تدحض مجرد التفكير بها من قبل الأتراك، وما يجري في حلب شاهد وقرينة.
فالتسليح والتحشيد والاجتماعات الاستخباراتية، وغيرها الكثير مما تعجز اللائحة عن ذكره، جميعها يتم من وفي الأراضي التركية، وجميعها بالتأكيد يتم بمعرفة السلطات التركية، وتحديداً المتعلقة بدعم التنظيمات الإرهابية، وكل ما يتصل بها من قريب أو بعيد يكون قراره المباشر من رأس النظام وليس من ذيله، ما يدفع إلى البت في المسألة بأن أي تعديل أو تغيير أو تبديل في السلوك التركي ليس وارداً في أجندات السياسة التركية، رغم الحلاوة من «طرف اللسان» التي ينطق بها بعض أركان نظام أردوغان حول المتغيرات والتطورات القادمة، وخصوصاً ما يرتبط بعلاقة تركيا بجوارها الجغرافي أو غيره.
فالتلوّن ليس جديداً على النظام التركي، ورئيسه تحديداً، والتقلب حسب الطقس أو المناخ السائد ليس حالة نادرة أو غير معروفة ومطروقة وسائدة في نهجه، وهذا ليس كلامنا، بل كلام النظام ذاته، والغدر أيضاً حالة قائمة ومستمرة في عقله وتفكيره، وهذا أيضاً ليس كلامنا وحدنا، بل سبق للروسي أيضا أن شاطرنا المصطلح نفسه، ومن ثمَّ فإن أي مقاربة لا تأخذ في حساباتها وفي معطياتها هذه الحقيقة، سيكون تعويلها أو رهانها في غير موقعه.
وهذا ربما لب مالم يُقَلْ بعد في سان بطرسبورغ، أو تمت مقاربته بطريقة عاجلة أو سريعة من دون التدقيق في أبعادها، فالواضح أن السلم الروسي أو طوق النجاة الذي أمّنته روسيا لأردوغان لا يخفى على أحد، ولا هو خارج حسابات السياسة ونتائجها، وبحكم أننا ندرك إلى حد اليقين بأن روسيا وسياستها لم ولن تأخذ يوماً بالمقايضات كما يحلو للبعض أن يغمز هنا أو هناك، فإن الاستنتاج يقود إلى تفسير بسيط مفاده أن الطوق المعطى ليس أكثر من وقت إضافي، يسمى في عالم «البزنس» الربع الإضافي من الأعمال، ويسمى في علم السياسة بربع الساعة الأخير أو ربع المهلة.
بمعنى آخر.. للتوضيح.. وكما هي السياسة في العادة تقول: إن أوراق أردوغان السياسية تحترق جميعها دفعة واحدة، وربع المهلة المعطاة، ليس لشخصه أو لوجوده، بقدر ما هو لتركيا الدولة، كي لا تذهب إلى موضع آخر، وألا تكون هي الأخرى بؤرة صراع لن تقتصر – إذا ما انفجرت – شظاياها على المنطقة، بقدر ما ستصيب العالم برمته، وهذا الطوق الذي رمته روسيا وتسانده فيه إيران ينطلق أساساً من مبدئية سياسية لا يرقى لها الشك، ومن قناعة بأحقية الشرعية الدولية، ومن منطلق المسؤولية الملقاة على عاتقهما إقليمياً، ومن منظور وجود روسيا كدولة عظمى على المسرح العالمي.
ذلك الوجود الذي يحرك الهواجس الأميركية، ويثير المخاوف الغربية عموماً، والذي كان محور الحراك الغربي منذ البداية، وسيظل حتى النهاية أو على الأقل ريثما ترتسم حدود الاشتباك بين الطرفين، والحالة التركية ليست خارج هذا الصراع، وطوق النجاة أيضاً ليس بعيداً عنه، بل ربما كان في صلبه وأساسه في وقت يأخذ الاصطفاف السياسي موقعه داخل العلاقات الدولية.. إقليمياً ودولياً، وإذا كان من الصعب الجزم بوثوقية أردوغان ونظامه، ففي الحد الأدنى لن تكون تركيا من دونه داخل حلبة الخصوم، وهذا يضاف إلى ما لم يُقَلْ أيضاً في قمة سان بطرسبورغ، وربما يفسر أيضاً هذا السعار الغربي لفبركات الحديث عن الكيماوي، حيث الانشغال الفرنسي بحضيض شعبية هولاند أخّره لبعض الوقت عن اللحاق بالركب الأميركي والبريطاني وتجاوب الألماني معهما في اللعق من القاع ذاته وبرتم مستنسخ!!
أردوغان في التجربة العملية لا يستطيع أن يكون خارج إخوانيته التي ينحاز إليها حين يقتضي الأمر الاختيار، ولن يكون لاحقاً، حتى وهو مأزوم، لن يتخلى عنها حتى لو خرج من جلده أو تبرأ من جلدته، لكن في الفترة الفاصلة أو الوقت المستقطع الذي وفّره الطوق الروسي ثمة مساحة للتخفيف من أعراض سياسة أردوغان المَرَضيّة، والحد من الاستطالات المعدية والتورم في الأوهام، حيث يقترب من الواقع ويقلص مساحة أوهامه وأحلامه، وقد تكون فترة ذهبية وفرصة خصبة جدية وجادة وفاعلة للانتقال بمكافحة الإرهاب إلى عتبة يتزايد فيها حرج الغرب وتتكشف أوراقه، وتفرّ من بين يديه ذرائعه ويفقد مسوغاته..!!
a.ka667@yahoo.com