ثورة أون لاين:
هل فكرت يوما ما أن تكتب على وجه الريح، وتبتكر حروفا تعرف كيف تلامس الندى، وتخط على بياض الغيم مجراها، وهل صدأت حروفك من الريح فكان المطر حبرك،أم غيرت مجرى الخلود الذي تبحث عنه ليكون الزمن دفترك وسجلك،
سجن قادم. لازمن من مضى تخرج من عباءة الموت التي تلف كل شيء، من اللغة التي تهرأت من فرط الاستعمال إلى الخيال الذي صار مهيض الجناح, تطير به مستعيرا كل شيء ممن ثوى تحت التراب وصار أكثر حضورا من الأحياء…؟
هل فعلت ذلك، فاخترعت اسلوبك وحفرت مجراك صعودا، لكنه بانعطافة ما سوف يصب ببحر الغد لا الأمس، إن لم تكن قد فعلت ذلك فثمة من بدأ يحفر مجراه منذ نصف قرن ونيف، يخط ويخط حتى صار محيطا لجباً، أدونيس الطفل العابر للموت مرات ومرات والمشتعل بالحياة كل لحظة، عنده مقله ومالم يقله، من زمن الشعر، مرورا بالثابت والمتحول، إلى موسيقا الحوت الأزرق، إلى كل ما في هذا الكون الرحب الذي ابتكره، كيف تختار منه وتقرأ وتقطف منه باقة تقول إنها من عطر لغته.
اليست المهمة صعبة وقاسية، أن تفاضل بين الندى وعطر الورد، بين الغيمة ومطرها ؟؟؟
الشاعر الاستاذ سامي أحمد صاحب دار التكوين ومديرها العام، وصديق الشاعر وتلميذه النجيب فعل ذلك، وكأنه يشتق الندى من الندى، عبر إصدار مهم جدا يشكل مشروعا بحد ذاته، كتاب بل سفر حمل عنوان: بيروت ثديا للضوء، صدر السفر هذا عن دار التكوين بدمشق منذ عدة أيام، يصحبك في عوالم الخصب الذي تشكل، ومرارة اللحظات التي صنعت مبدعا كبيرا، في السفر الذي ب900 صفحة من القطع الكبير, تحتار من أين يمكن لك أن تنسق باقة ايضا من عبير العبير ولكن الطفولة التي فاض ادونيس بالبوح عنها، وعند كل حرف منها أنت أمام دهشة تقودك الى عوالم الثراء.
كفاك نوما
(كفاك نوما, انهض طلعت الشمس, إنه صوت أبي يهزني من كتفي، رافعا عني اللحاف، كأنه يقول لي: لايكفي أن تقرأ الكلمات، أو أن تحفظها وترددها، ينبغي ايضا أن تحولها إلى غيوم تمطر فوق الحقول، لاتزال راسخة في ذاكرتي صور من أشياء طفولتي في القرية، أذكر منها السرير الخشبي الهزاز الذي كان بمثابة رحم ثان، تمثال للنوم واللعب في آن ينام فيه الطفل لاعبا، يلعب فيما ينام….أذكر ايضا حقل التبغ أمام بيتنا وحقول قمح قريبة إليه وحسن الليمون وكان شريكا لنا في العمل منذ طفولتي تمرست بالعمل، فلاحة وزراعة وحصادا، مرة أخذ المنجل إصبعي ولايزال أثر ذلك الجرح واضحا حتى اليوم، كت اسابق البارعين في شتل التبغ، كان الشاتول كمثل قلم في يدي والحقل كمثل صفحة بيضاء وكانت شتلات التبغ بمثابة الكلمات، يا لتلك السطور تتلألأ حميمة في كتاب العمر).
يوم جفت ينابيع الحياة
عندما توفى والدي في حادث سير مروع، جفت في داخلي ينابيع الحياة، وماتت قريتي في نفسي، لم تعد تعنيني (قصابين) بعده إلا بصفتها ذكرى مؤلمة عن مكان صار خاليا من كل معنى بالنسبة إلي، فاتجهت بغرائزي كلها نحو الرحيل، رحيل لايعرف التوقف باتجاه مجاهيل لا نهاية لها.
بلى، يولد الانسان أكثر من مرة وفي أكثر من مكان، ولادته الأولى من أبويه عمل الطبيعة لا اختيار فيه…… كنت مسكونا بشعور غامض أن مكان ولادتي الأولى ليس مكانا لكي أنمو فيه، بل لكي أنطلق منه، شعور يقول لي: لن تجد نفسك إلا في مكان آخر في أمكنة أخرى، كأن الإنسان لايصبح نفسه إلا بالخروج منها، كأن تاريخ الانسان هو تاريخ الخروج من نفسه، لكن, كيف أخرج، وأين؟؟؟
ويقف أدونيس عند القائه القصيدة أمام رئيس الجمهورية حينذاك، طالبا شيئا واحدا فقط أريد أن أتعلم، وكان له ما أراد، في سفر من اسفار السفر الكبير هذا، أعني مقدمة ستجد ادونيس الانسان، المرارة والتحدي، الفعل قبل ان تلقي عليه جوازم المضارع لتحيله ماضيا.
المثقفون أولئك الطغاة
(الطغيان في الحياة العربية شال من ألف هذه الحياة إلى يائها..
منذ الطفولة وبخاصة في المدارس الدينية يتعلم العربي فن الموت والنظر الى الحياة كأنها عبء يجب الخلاص منه\ الطغيان في الحياة العربية لاينحصر في السياسة إنما يمتد كذلك إلى الثقافة بعامة والى الشعر والرواية بخاصة..
هكذا يبدو المجتمع العربي جسما ضخما يعيش في حالة من الانقسام، اي في حالة من الاحتضار الدائم..
لايجوز المساس بهم كأنهم عجول مقدسة…
تمر الافكار العظيمة في الحياة العربية كمثل غيوم تعبر الفضاء دون ان تمطر…
لماذا لامكان للعرب في مكانهم..
الانهم رفضوا أن يفهوا الارض..
منذ أن بدأت «ثورات الربيع العربي» لم نقرأ كلمة عن الحرية والمساواة..
لم يستطع العرب أن يتحرروا من داخل في عقولهم وحياتهم هكذا استعبدهم الطغيان..
كما يموت المؤلفون، كذلك تموت النصوص..
قلبها سابح في الفضاء وقلبه مركب جانح..
هل تثق حقا أيها الحقل بالغيم ؟ هل تثق, حقا، أيها الغيم بالبحر؟
ثمة صراخ له وجه الموج..
الشمس مركز الكون مع ذلك تحجبها خرقة بحجم إصبع..
ما العربي في هذا العصر..
ثقافات منحدرات نفاق كوني..
اثق أن تدفق الدم في جسد جبلة محضون بشهوة افتتان باذخ..
هل الوطن هو كذلك قبر محفور في الهواء……؟)
من سفر أدونيس محاولة لقطف باقة من الندى وكل اللغة ندية بهية تفتق وراءها ألف معنى وتأويل, شكرا للاستاذ الشاعر سامي أحمد ولدار التكوين على هذا السفر المهم المكتوب بماء اللغة البكر.