ثورة أون لاين:
الفيلسوف الأميركي وعالم اللسانيات الأشهر في العالم لأكثر من نصف قرن، نعوم تشومسكي، يقدم في كتاب (العالم.. إلى أين؟) ضمن سلسلة الحوارات الفكرية وجهة نظره حول العولمة، والتدخل الأميركي في الانتخابات الرئاسية في مختلف دول العالم، وموقف السياسات الدولية من الحرب على الإرهاب، وصعود النيوليبرالية، وأزمة اللاجئين، والتصدعات في الاتحاد الأوروبي، ورئاسة دونالد ترامب وغيرها من الإشكاليات التي يمر بها العالم في هذه المرحلة من المد والجزر في العلاقات بين الدول وحكوماتها من جهة، والشعوب وأنظمتها من جهة ثانية.
تشومسكي في كل ما كتب لا يمل من الحديث عن العدوانية الأميركية، ويدافع عن الضعفاء والمضطهدين في مختلف أنحاء العالم منذ زمن الحرب الفيتنامية إلى الوقت الراهن، حاوره في كتاب (العالم إلى أين؟) الباحث في الاقتصاد السياسي الدولي سي جي بوليكرونيو، فوقف معه على مدى أربع سنوات من أواخر العام 2013 إلى أوائل العام 2017 على واقع الحال في العالم.
يقع الكتاب في ثلاثة أجزاء، أو ثلاثة محاور، لخص فيها بوليكرونيو رؤية تشومسكي للعالم اليوم في أنه يقف أمام خيارين، الأول: التشاؤم، بمعنى أن نكون متشائمين أمام ما يحدث من كوارث في الجانب الرأسمالي من العالم، وبالتالي ليس أمامنا إلا الاستسلام. والخيار الثاني: التفاؤل، بمعنى أن نكون متفائلين، وننتهز الفرص، فربما نساهم في جعل العالم مكاناً أفضل للحياة.
يعكس الجزء الأول الواقع الاقتصادي، والتحولات الكبرى التي شهدها العالم منذ مطلع الألفية الثالثة، ويتناول الجزء الثاني الولايات المتحدة في عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب، والإشكاليات التي أثارها منذ توليه الرئاسة، من إلغاء قرار النظام الصحي (أوباما كير) الذي وقع عليه الرئيس السابق باراك أوباما، مروراً بإلغاء اتفاقية المناخ، وليس وصولاً إلى قوانين الهجرة. أما الجزء الثالث والأخير، فيطرح تساؤلات عدة، حول الولايات المتحدة ومدى استعدادها للاشتراكية، وموقفها من الشيوعية والثورات.
عالم التحولات الكبرى
يبدأ الجزء الأول بسؤال حول الصعود المفاجئ للرئيس الأميركي دونالد ترامب، ودور اللوبي الإسرائيلي في السياسة الأميركية، والحرب على الإرهاب.
يجيب تشومسكي بكل موضوعية أن الولايات المتحدة تواجه أوقاتاً عصيبة، فرغم أنها وحسب السياسات الدولية لا تزال القوة العظمى ربما الوحيدة في العالم -إذا أخرجنا روسيا من المقارنة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي- لكنها لم تعد قادرة على التأثير في الأحداث وتحقيق النتائج التي تتناسب وطموحاتها. ويرى تشومسكي أن حالة من الإحباط والقلق بشأن مخاطر الكوارث المنتظرة فاقت آمال الناخبين الأميركيين خلال انتخابات العام 2016 مع صعود شعبوية دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية، وهذا يشير إلى حقيقة لا مجال للشك فيها هي أن المجتمع الأميركي يتعرض للانهيار.
وفي إجابته عن اللوبي الإسرائيلي ومدى تحكمه بالسياسة الأميركية الخارجية في الشرق الأوسط، يرى تشومسكي أنه عندما تتوافق أهداف اللوبي مع المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الملموسة، فإنها بالعموم تجد طريقها إلى التحقق. ويضرب مثالاً على ما يجري في فلسطين من قتل وتدمير وتهجير، فقضية مثل القضية الفلسطينية قليلة الأهمية بالنسبة إلى المؤسسات والشركات العملاقة المسيطرة في الولايات المتحدة، والدعم الأكبر لممارسات إسرائيل وأفعالها، مستقل عن اللوبي إلى حد بعيد، لأن الداعم الأساسي هم المسيحيون الأصوليون.
وفي رده عن سؤال حول إشكالية الحرب على الإرهاب التي بدأت مع حكم الرئيس رونالد ريغان، وتحولت إلى الإسلاموفوبيا وحرباً صليبية مع الرئيس جورج دبليو بوش، يشير تشومسكي إلى أن هاتين المرحلتين مختلفتان تماماً، باستثناء عنصر واحد مشترك، فالحرب التي بدأها ريغان تحولت بسرعة إلى حروب إرهابية، ويفترض أن هذا هو سبب اختفائها. فقد كانت لحروبه الإرهابية نتائج فظيعة على أميركا الوسطى، وأفريقيا الجنوبية، والشرق الأوسط. وهذا أحد الأسباب الرئيسة التي نادراً ما تذكر لأزمة اللاجئين الحالية. وينطبق الأمر نفسه على المرحلة الثانية التي أعاد جورج بوش الابن إعلانها بعد عشرين عاماً، وتحديداً في العام 2001. فالعدوان المباشر دمر مناطق كثيرة، واتخذ الإرهاب صوراً جديدة، وأخذت المطرقة تضرب ضربة بعد أخرى، أفغانستان، العراق، ليبيا، وغيرها. واعتماد بوش على القوة العسكرية أثبت أنها كارثية بالنسبة إلى الضحايا، وقاد كذلك إلى هزائم جدية للولايات المتحدة.
التكامل الأوروبي ورؤى جديدة للسلام
أما المرحلة الثالثة، والتي أتى تشومسكي على ذكرها رداً على سؤال آخر في السياق نفسه، وهي مرحلة الرئيس باراك أوباما الذي اعتمد على تكتيكات مختلفة في محاربته الإرهاب، منها حملة الاغتيالات العالمية بواسطة الطائرات من دون طيار، وعمليات القوات الخاصة المنتشرة في معظم أنحاء العالم. وهذا ما ذكره الصحافي الأميركي نيك تورس من أن قوات النخبة الأميركية كانت منتشرة في 147 بلداً في العام 2015، أي 70% من دول العالم، وفي هذا الصدد يقول تورس: "بالنسبة لأميركا، قد تكون سنة 2016 سنة الكوماندوس، حيث تنقلت القوات الخاصة في مناطق النزاع واحدة تلو الأخرى في شمال أفريقيا والشرق الأوسط الكبير، وقوات العمليات الخاصة الأميركية (SOF) بدت كالعلامة التجارية الخاصة في حرب الأضواء. وقال قائد القيادة الأميركية للعمليات الخاصة (سوكوم)، الجنرال ريموند توماس في العام الماضي "إن التحدي المباشر هو الفوز بالمعركة الحالية، ضد تنظيم داعش، وتنظيم القاعدة."
وفي هذا الصدد يستشهد تشومسكي بما نشرته صحيفة نيويورك تايمز حول سياسة أوباما في مكافحة الإرهاب ويقول: "تبنى السيد أوباما طريقة جدلية لحساب الخسائر المدنية التي لم تكن قليلة لمنعه من تلك الأعمال، حيث ترى طريقته أن كل الذكور الذين هم في سن الخدمة العسكرية في منطقة الضربة مقاتلون، وفقاً لعدد من المسؤولين في الإدارة، ما لم يكن هناك تأكيد استخباراتي واضح يؤكد أنهم أبرياء".
يثير سي جي بوليكرونيو مع تشومسكي أزمة اللاجئين في أوروبا، ومواقف الدول الأوروبية من هذا اللجوء، وقبل أن يجيب تشومسكي عن موقف الاتحاد الأوروبي من هكذا مسألة، يتطرق إلى الأسباب التي أدت إليها، وهي كما يراها، أسباب قديمة وجديدة في آن، فأوروبا عانت قديماً من لجوء الأفارقة إليها، نتيجة الحروب المتتالية. لكن في الوقت الراهن، وبعد الغزو الأميركي- البريطاني للعراق عسكرياً، والعقوبات الأميركية البريطانية، التي اعتبرها تشومسكي قراراً فعلياً بالإبادة الجماعية، وكذلك الصراع الطائفي، كلها عوامل أدت إلى هروب جماعي باتجاه أوروبا، والأمر ذاته ينطبق على ليبيا وسوريا، وغيرها من المناطق التي تشهد صراعات وحروباً داخلية، وإن اختلفت أدوات الحرب وأسبابها. لكن موقف الاتحاد الأوروبي كتكتل غير واضح بشأن اللاجئين، فكل دولة لها ظروفها ومعطياتها، وكان على دول الاتحاد أن تفعل شيئاً آخر غير فتح الحدود وتقديم المساعدة، كما فعلت السويد وألمانيا، في حين أغلق الآخرون حدودهم، بل سعوا على تشجيع تركيا لإبقاء اللاجئين ضمن الأراضي التركية، بعيداً عن حدودهم، تماماً، كما تفعل الولايات المتحدة، حيث فرضت على المكسيك أن تمنع الذين يحاولون الهرب من الخراب الذي تخلفه جرائم الولايات المتحدة من الوصول إلى حدود الأخيرة.
والملاحظ أن تشومسكي في إجابته عن موضوع اللاجئين لم يتطرق إلى وضع اللاجئين في لبنان، وخاصة أن أعدادهم تفوق أعداد اللاجئين في السويد!!.
أميركا في عهد ترامب
يبدأ الجزء الثاني من حوارات سي جي بوليكرونيو مع تشومسكي، بسؤال حول واقع الديمقراطية في الولايات المتحدة، وفوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية رغم خسارته الأصوات الشعبية، فإذا كان مبدأ شخص واحد، صوت واحد، هو المبدأ الأساسي خلف كل نموذج شرعي للديمقراطية، فما نوع الديمقراطية السائدة في الولايات المتحدة؟
يستشهد تشومسكي في إجابته بمقال للصحافي البريطاني سيث أكرمان، الذي لم يرَ إلا عيباً واحداً في النظام الأميركي، وهو سيطرة المنظمات التي ليست أحزاباً سياسية أصيلة مع أعضاء من الشعب على العملية الانتخابية، وقد حمت تلك المنظمات أنفسها من المنافسة بوسائل عدة تعيق عمل الأحزاب السياسية الأصيلة التي تنتج من الاتحاد الحر لأعضائها، كما تكون الحال عند توظيف الديمقراطية بصورة سليمة.
ما وراء ذلك أن هناك دوراً ساحقاً للثروة الخاصة، ولثروة الشركات، ليس في الحملات الرئاسية فقط كما وثق توماس فيرغوسون (كاتب أميركي صاحب كتابي "القاعدة الذهبية"، و"إلى اليمين")، وإنما في الكونغرس أيضاً. وهذا ما أوصل دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية، وهذا ما جعله يضرب عرض الحائط الاتفاقيات الدولية من اتفاقية المناخ، إلى قراره الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة للكيان الإسرائيلي، وعزمه عن نقل سفارة بلاده إليها، ووقوقه إلى جانب اليمين المتطرف في التوسع الاستيطاني، والتغييرات التي أجراها في إدارته، وإقالة بعض مسؤولي البيت الأبيض، وكأنه مصمم منذ اللحظة الأولى على قيادة العالم نحو الهاوية.
ويختصر تشومسكي الديمقراطية الأميركية بالقول: "الديمقراطية الأميركية المحدودة دوماً انجرفت جوهرياً نحو حكم الأثرياء، لكن هذه النزعات لم تحفر في الصخر، نحن نتمتع بإرث غير عادي من الحرية والحقوق، تركه لنا أسلافنا الذين لم يستسلموا تحت ظروف أقسى بكثير في الغالب مما نواجهه الآن".
وفي رده عن سؤال حول نشر الديمقراطية في العالم على الطراز الأميركي، يجيب تشومسكي، أن أحد المبادئ الراسخة في النظام الأميركي هو محاولته نشر الديمقراطية على طرازه الخاص، ورغم أنه لم يتم التعبير عن هذه النظرية، لكنها فرضت كأساس منطقي للحديث عن الدور الأميركي في العالم. وإذا كانت الديمقراطية الأميركية كنظام سياسي مع انتخابات نظامية لا تشكّل تحدياً خطيراً لرجال الأعمال، فإن صانعي السياسة الأميركية يتوقون لرؤية الديمقراطية منتشرة عبر العالم. وهذا المبدأ لا يضعف نتيجة الانتهاكات المستمرة الناتجة عن التفسيرات المختلفة لمفهوم الديمقراطية على أنها نظام يكون فيه للمواطنين دور مهم في إدارة الشؤون العامة، بحسب تشومسكي.
هل الولايات المتحدة مستعدة للاشتراكية؟
يجيب تشومسكي في الجزء الثالث من حوارات سي جي بوليكرونيو، عن مجمل التساؤلات التي يطرحها حول الأناركية والشيوعية والثورات (الأناركية أو أناركيزم، هي فلسفة سياسية تعتبر الدولة غير مرغوب فيها، وليست ذات أهمية وهي مضرّة للمجتمع، وتروج لمجتمع بلا دولة، وتسعى إلى تحجيم أو إلغاء تدخل السلطة فى سلوك العلاقات الانسانية). والشيوعية (ايديولوجية اجتماعية اقتصادية سياسية، هدفها الأساسي تأسيس مجتمع شيوعي بنظام اجتماعي اقتصادي مبني على الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج في ظل غياب الطبقات المجتمعية والمال، ومنظومة الدولة)، والثورات (الثورة كمصطلح سياسي هي الخروج عن الوضع الراهن وتغييره باندفاع يحركه عدم الرضا أو التطلع إلى الأفضل أو حتى الغضب). وقد وصف الفيلسوف الإغريقي أرسطو شكلين من الثورات في سياقات سياسية: الأول، التغيير الكامل من دستور إلى آخر، والثاني، التعديل على دستور موجود.
يرى تشومسكي أن هناك حركات حية وحيوية للديمقراطية الراديكالية بمشاركة عناصر من أفكار أناركية وشيوعية خلال فترات الثورة والاضطراب، وخاصة، في ستينيات القرن العشرين، ولكن في الثمانينيات أصبحت فترة الليبرالية الجديدة، فترة إضعاف وتهميش لمعظم سكان العالم، لكن الأفكار القديمة التي تحدث عنها كارل ماركس (فيلسوف ألماني، واقتصادي، وعالم اجتماع، ومؤرخ، وصحفي واشتراكي ثوري) غير بعيدة عن السطح، وممكن أن تظهر في أماكن وأوقات غير متوقعة. وهنا، يشير تشومسكي إلى انتشار المشاريع والتعاونيات التي يملكها العمال في الولايات المتحدة، التي هي ليست أناركية ولا شيوعية بالمعنى الدقيق، لكنها تحمل بذور تحول جذري بعيد المدى.
وحول إخفاق هذه الرؤى (الأناركية والماركسية) في الحصول على موطئ قدم في هذا العصر، يشير تشومسكي إلى الأنظمة السائدة التي هي صور محددة من رأسمالية الدولة، حُرفت في الأجيال الماضية بتعاليم الليبرالية الجديدة عبر الاعتداء على الكرامة الإنسانية، وحتى على حاجات البشر العادية، وأسوأ ما في الأمر أنه ما لم تعكس آثارها، فإن تطبيق هذه التعاليم سيزيل إمكانية الوجود البشري المحترم، على حد قول تشومسكي.
وبعيداً عن السياسة، يخوض بوليكرونيو مع تشومسكي حواراً آخر حول اللغة واللسانيات التي أحدث فيها تشومسكي خرقاً لنظريات لغوية كانت سائدة، فيرى أن الدراسة الدقيقة للغة تصبح أكثر تبصراً في المشكلات الفلسفية التقليدية، كما أن القدرة اللغوية البشرية معزولة تماماً عن المقدرات الإدراكية الأخرى، وهي ليست مجرد عجلة للتفكير، وإنما هي على الأرجح المصدر التوليدي للأجزاء الأساسية من التفكير. كما أن عملية التحكم بالتفكير هي مبدأ رئيسي في صناعة العلاقات العامة، التي تطورت في الدول الأكثر تحرراً في العالم، (بريطانيا، والولايات المتحدة)، مدفوعة بالاعتراف أن الناس حصلوا على الكثير جداً من الحقوق التي يجب التحكم بها بالقوة. لذا، يرى تشومسكي أنه من الضروري التحول إلى وسائل أخرى، وهذا ما أشار إليه أيضاً، إدوارد بيرنيز أحد مؤسسي هذه الصناعة بـ"هندسة القبول"، فهي ضرورية في المجتمعات الديمقراطية كي تضمن أن الأقلية الذكية ستكون قادرة على العمل لمصلحة الجميع من دون تدخل الجمهور الذي يجب إبقاؤه سلبياً وخاضعاً وغافلاً، وثقافة الاستهلاك العاطفي هي الأداة الواضحة، لتحقيق هذه الغايات.