ثورة أون لاين- علي نصر الله:
إغراقُ الخصم بالتفاصيل التي تُنتج بدورها تفاصيل أخرى، فيما عملية التخاصم ذاتها تُفضي أيضاً إلى تفاصيل أخرى، تَضيع معها القضية الأساس أو تُصبح خارج دائرة الاهتمام، هي استراتيجية تضعها الولايات المتحدة موضع التنفيذ وتُمارسها نهجاً وعملاً مُنظماً ليس مع طرف أو دولة مُحددة لخصومة معها، بل تكاد تكون سياستها الرسمية المُعتمدة مع العالم مُجتمعاً.
بداية يُعتقد أنه لا يوجد في العالم أصدقاء لأميركا، غير أنّ ذلك لا يعني أن دول العالم تقع في خانة الخصوم أو الأعداء، ويُعتقد أيضاً أن أميركا إذا كانت تبدو دائماً في حالة خصومة مع العالم وعداء مع أغلبيته، فذلك لأنها تبرع وتتفوق باستعداء العالم لها، ولذلك ربما تعتمد استراتيجية الإغراق بالتفاصيل سياسة رسمية إذ لا ينفع سواها نظراً لكثرة ما تَفتتح من جبهات خلاف وخصومة ومواجهة تقتضي منها الكذب، ثم تلفيق تفاصيل تليق بحجم الكذب ولخدمة أغراضه!.
باختصار يُمكن لأيّ مُهتم ومُتابع للسياسة الأميركية أن يَعثر على عشرات الأمثلة التي لا تُؤكد بل تُثبت أن الولايات المتحدة ربما باتت تتفوق على الشيطان ذاته الذي يُقال أنه يكمن في التفاصيل لشدة ما بَرَعَت بابتداع واختراع تفاصيل شيطانية حَرَفت الأنظار وشَتتت الانتباه مرات ومرات عن كثير من القضايا الجوهرية، وجعلتها تَغرق تالياً بتفاصيل أَنتجتها ووضَعتها بالتداول لتُنتج بدورها أجيالاً جديدة من تفاصيل تَفتح على أخرى.. ليَضيع المُتابع والمَعني والمُنخرط في مَتاهات لا تُعيده بحال من الأحوال إلى الجوهر أو إلى القضية الأم!.
1991 – مدريد – مؤتمر السلام، كان بداية قادت الفلسطينيين لاتفاق أوسلو، كل بند فيه متاهة تحتاج لاتفاق.. هذه تفاصيل مطلوب غرق الفلسطيني فيها، وقد غرق!.
خطة خارطة الطريق وبدعة حل الدولتين، محور آخر صُمم ليَحمل ويُحَمّل تفاصيل إضافية تُغرق الفلسطيني والعالم بلجنة رباعية تموت حيناً ويجري إحياؤها حيناً آخر لخدمة تفصيل شيطاني هنا وآخر هناك!.
الاستيطان.. شرعي ولا شرعي، كذبةٌ وتفاصيل أغرقت الولايات المتحدة وإسرائيل العالم فيها، ليَتضاعف الاستيطان 40 مرّة، بينما يغرق الاتحاد الأوروبي (ظاهرياً) بتفصيل تافه: هل نرفض أم نقبل مُنتجات زراعية إسرائيلية تأتي من الاستيطان غير المشروع داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة؟.
مُؤخراً نقلت واشنطن سفارتها لدى الكيان الغاصب إلى القدس المحتلة، لكن ما موضوع النقاشات الدائرة اليوم؟ هل تدور حول شرعية أو لا قانونية الخطوة الأميركية؟ أم حول تجريم إسرائيل التي قتلت وأصابت واعتقلت في يوم واحد آلاف الفلسطينيين المُحتجين على نقل السفارة؟ أم حول حق الكيان المحتل بالدفاع عن نفسه؟.. هذه تفاصيل للغرق والاستغراق، بينما موضوع القدس ونقل السفارة صار في مكان آخر.. هامشي لا جوهري؟!.
خرجت أميركا من الاتفاق النووي الإيراني، بل خرجت على الإجماع الدولي بإسقاطها اتفاقاً دولياً، فما المطروح حالياً؟ عقوبات على إيران وكل من يتعاون معها.. شروط مُذلة تُطرح على طهران والغرب.. تهديدات وتلويح بما هو أشد وأقسى؟ وبدل أن يتم التركيز على الحماقة الأميركية، يغرق العالم بتفاصيل شيطانية أميركية ينتقل معها من مكان لآخر؟!.
المسؤولية لا تقع على عاتق الولايات المتحدة، بل على العالم المُحيط بها، هي تمتهن النفاق والكذب والعدوان، وتعتمد في سياستها ما لا يخطر ببال الشياطين، فلماذا يسمح لها العالم؟ لماذا لا يحاسبها؟ تعزل نفسها بألف إجراء – النووي والقدس أُنموذجاً – فلماذا لا يعزلها ويجعلها تختنق بعزلتها؟ على الأقل كي لا يغرق بتفاصيلها الشريرة؟!.