أظن أن جميع الذين ينخرطون في الحبر والبياض، (أي الكتّاب) يزعمون أن هناك أزمة ثقافية عميقة.. وأن هذه الأزمة ممتدة شاقولياً وأفقياً.. فهي أزمة معايير ومصطلحات وفكر ومعرفة ورؤى، فالقراءة لا تكفي لأن نطلق صفة مثقف على قارئ ما.. والكتابة لا يعني أن الذي يكتب مثقف رؤيوي ويستطيع أن يحلل ويرى ما وراء الحجب الغامضة.
ولكن المثقف يحتاج إلى متلق.. والمتلقي عليه أن يصمد أمام جدار المعرفة الصلب حتى ينهار أمام الوعي والإدراك الذي لا بد من أن يغير في الفرد وفي سلوكه وفكره وطريقة حكمه على الوجود وطريقة مساءلته للعالم.. فالثقافة درجة عالية من الوعي والتحليل والرؤيا.. وهذه لا تتأتى لكل فرد.. ففيها الكثير من الجهد والتعب والموهبة أيضاً.
غير أن مستلزمات الثقافة ومعطياتها لا تتوفر في كل المجتمعات.. ومنها المجتمع العربي المتخلف الذي ينغلق على أفكار سلفية لا يزيح عنها ولا يقبل حتى الجدل فيها أو مناقشتها، إنها ثابتة، جامدة، صلبة وهي الصحيحة وغيرها الناقص أو غير المكتمل.. لذلك يتم الاعتماد عليها كمقياس والاستشهاد بمدلولاتها كحقيقة.. لا تتغير ولا تتبدل.. وكل ما كان في الماضي من أدب ومعرفة وأخلاق وفلسفة هو الأفضل والأكمل، ولا يجوز النظر إليه بعين الشك أبداً وإلا تحولت إلى مارق يستحق العقاب.
وإذا كانت مستلزمات الثقافة وثوابتها تقتضي وجود الكتاب وتوفر الكتاب ونشر هذا الكتاب كي يصل إلى أكبر قدر من القراء وأصحاب الاهتمام ويحصل الحوار والتفاعل بين القارئ والكاتب.. بين الأسئلة والأجوبة لعل هذا الحوار يحدث تغييراً تدريجياً في الفكر والمعرفة ويحول زوايا النظر الحادة إلى دائرة تدور في كل الاتجاهات وتحدث تأثيراً في الفضاء القريب والبعيد.. ما يؤدي إلى تلقف هذا التأثير وتقديره لا نبذه وتحقيره.. فالمختلف ليس دائماً خروج على القطيع وعلى الراعي معاقبته.
نحن الآن.. في هذه المرحلة.. بحاجة لأفكار تخرج على القطيع ولا تستسلم للسائد، بحاجة للخلق والابتكار.. بدءاً من الأدب والشعر إلى طريقة البناء وأسلوب تخطبط المدن والتعاطي مع زمن جديد يسمى زمن ما بعد الحرب.
لأنه من البديهي أن نلاحظ أن الزمن الحالي – زمن الحرب..وقبل الحرب – لم يعد صالحاً ليكمل إنجازاته المعرفية والفكرية وحتى الاجتماعية.. لقد تغير كل شيء.. سواء الإنسان ودواخله وأفكاره وأحلامه وغاياته وأساليبه في العيش وفي الحب وفي متطلبات الحياة.. اختلفت طريقة قراءته وطريقة كتابته.. وأدى التواصل عبر القارات إلى وقوع انفصام في أفكاره.. فإما يصير متزمتاً، منغلقاً.. أو يتحول إلى إنسان بلا انتماء.. بلا هوية وبلا رموز..غايته المادة والمتعة.. فكل شيء بالنسبة له قابل للاستهلاك لأنه خاضع للسوق.. عرض وطلب.. لا أكثر.
الخطورة هنا أن الفرد العربي يتغير أفقياً ولا يتغير في العمق.. فهو دائماً المتلقي ودائماً المستهلك.. هو الإنسان العاطل عن الفعل ويتلقى ردّ الفعل من الآخر دون أن يمتلك سلاح المعرفة والرؤيا ليحول ردة الفعل لديه إلى منجز جديد يستطيع الإفادة منه وتحويله إلى مادة تلائم واقعه وتطلعاته وأهدافه.. لذلك يقع مباشرة في التكرار واجترار الماضي حتى يصل إلى مرحلة الهزيمة عند ذلك قد ينسف كل شيء ويتحول إلى ذاك الأمي معرفياً والجاهل فكرياً والمتخلف حضارياً.
وحتى نكون منصفين لا بد من التوكيد على دور القيادات السياسية والفكرية العليا والتنبه إلى أساليب مبتكرة لإيصال المعرفة التنويرية للمجتمع والعمل على رفع مستوى وعيه ومقدرته على التمييز بين خيط الجهل الأسود وخيط المعرفة الأبيض.
إن وعي المجتمعات وفعاليتها البناءة لا يأتي من فراغ ولا يسقط من هواء.. هو خطة متكاملة يجب الاشتغال عليها والبناء على ركائزها بدءاً من توفر الكتاب ونشره وتوزيعه وانتهاء بالإعلام المرئي والمسموع مع إعادة الاعتبار للفكر والمفكرين وللإبداع والمبدعين في كل مجالات الحياة.. وربما كان دور المدرسة دوراً فاصلاً ومؤسساً لأولى لبنات الخلق والابتكار وتقدير العقول النيرة وإحاطتها بهالة رمزية لتكون دافعاً وقدوة وطريقاً لأبناء المستقبل الذي ننتظره.
أنيسة عبود
التاريخ: الأربعاء 7-11-2018
رقم العدد : 16830