تلك المرأة المتلفحة بالأسود تجلس على حافة الرصيف وهي تحكم إغلاق كيس بلاستيكي على طبق طعام فازت به، بينما وقفت القطة الى جانبها تترقب أن تحصل على شيء من الغنيمة بعد أن نفذت الى أنفها رائحة الطعام، لكن المرأة ما لبثت أن أومأت للقطة بيدها أن تبتعد عنها، وعن المكان، وقد اطمأنت الى إحكام الكيس حول ما حصلت عليه..
يستوقفني المشهد في اشارة استفهام كبيرة : ترى هل كان هذا الطبق قد وضع للقطة أساسا، والمرأة هي من سبق إليه؟.. وهل أصبح بعض المعوزين يستولون حتى على طعام القطط؟
وغير بعيد عن المرأة الجائعة، والقطة الخائبة تمتد سلسلة من المطاعم، والمقاهي والتي تمددت استطالاتها حتى غدت مقاهي رصيف بحق، أو بغير حق.. والرواد من كل الأعمار تكاد تغص بهم تلك الأمكنة بينما تتزاحم أطباق الأطعمة فوق الطاولات، وكأنه يوم المجاعة.
وتلك المرأة الأخرى وقد تجاوزت عديدا من الأعوام تقف لدى إحدى الدوائر الرسمية حائرة بين موظف يربكها، ويضع لها العوائق للحصول على غايتها، وباب المدير المشرع لكل من يطلب المساعدة، والعون، أو التوقيع.. وبين هذا وذاك، وبعد كثير من الجدال، والانتظار ينتهي الأمر في غرفة المدير، والمرأة المسنة تجود بالدعاء له، وتندفع لتقبل رأسه فإذا به هو الذي يقبل يدها في تقدير لما قطعته من أشواط في سنوات العمر، ومقابل كلمات مفعمة بالامتنان كانت تقولها له بعد أن حبست دموعا لعلها دموع فرح بفوز كاد يبدو مستحيلا لولا هذا الباب المشرع.
والرجل المتهالك الذي يتحامل على نفسه على كرسي انتظار الطائرة يجعل المرء يستغرب كيف لمثل هذا الجسد الضعيف الذي كان في يوم قويا وهو يحتضن طفلا أن يسافر وحيدا دون أبناء، أو معين من أقرباء.. وهو يجلس في تناقض صارخ الى جانب الفتاة الشابة التي تضم طفلها، وتخاف عليه من لمح البصر له حتى لا تصيبه عين حاسد في تعبير لافت عن حب أم لوليدها.. وتبرز أمامي هذه المرة إشارة تعجب لا استفهام بينما التلفاز في قاعة الانتظار يعرض قصة عجوز أحبت ان تشارك ببرنامج للغناء فرافقها كل من لديها من بنات، وأبناء، وحتى أحفاد.
وفي المدينة المكتظة بالسكان أطفال حفاة، شبه عراة يركضون في شارع عريض شغلت ناصيته لافتة كبيرة تعلن عن دكان فخم يهتم بأحدث القصات لشعور الكلاب.
ويحظى فيلم فيديو قصير لأب يحاول أن ينقذ ابنه الصغير من ورطته كحارس مرمى لكرة القدم.. أقول يحظى بنسب مشاهدة على مواقع التواصل الاجتماعي تعد بالملايين.. بينما يموت عشرات الأطفال في غزة بسبب الاحتلال دون أن يحظوا بأي مشاهدة تذكر لما آلت اليه أحوالهم.
وفتاتان في مقتبل العمر تلتقيان في شارع أنيق.. الأولى تتسول، والثانية تتزين بعد أن خرجت من عيادات التجميل.. ونظراتها تعلن عن أنها ترثي لحال الفتاة الأخرى، والتي هي في مثل عمرها ليس لأنها في حال بائس بل لأنها مسكينة لن تحظى بفرصة الدخول لمثل هذه العيادات التي تغير زوارها من حال الى حال.
وتقودني خطواتي نحو أماكن أبعد، وقد استولى علي فضول مباغت كمن يحاول أن يكتشف مجاهل غابة استوائية تعج بكائنات، وبمفاجآت لا تنتهي.. وتتوالى أمامي قصص الناس كفيلم صامت اعتمد على الحركة والإيماء ليوصل للمتلقي قصته.. وتتعدد المشاهد أمامي مع كل خطوة جديدة، وتنبع أمامي أحداث لا حصر لها.. مشاهدات هي ليست استثنائية اذ ربما تكون عادية، ويمكن أن تطرأ في كل المجتمعات لكنها تناقضات الحياة في سريانها التي قد تستوقفنا أحيانا، أو أنها تستفزنا لنعيد قراءة المشهد من جديد.. من منظور جديد.
لينا كيلاني
التاريخ: الجمعة 16-11-2018
الرقم: 16838