أصبح الحديث عن صفقة القرن الشغل الشاغل للعديد من وسائل الإعلام، حيث لا يخلو برنامج أو حوار سياسي إلا ويتم الإشارة من خلاله إليها، وعند السؤال عنها يلاحظ المتابع أنه لا يوجد تحديد واضح لمضامينها أو أطرافها ولا سيما انها سميت صفقة ومفهوم الصفقة يفترض وجود طرفين أو أكثر فيها، فالأمر الواضح فيها هو أن مضمونها يتعلق بقضية فلسطين أو ما يسمى حل القضية الفلسطينية أو الصراع العربي الإسرائيلي في الدائرة الأوسع للمفهوم .
وبالعودة للعنوان تجدر الإشارة إلى أن ولادة المصطلح جاءت في نيسان الماضي ٢٠١٨ بعد لقاء قمة جمع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إذ ورد على لسانه – أي الرئيس السيسي – أن قضية فلسطين هي قضية القرن ويحتاج حلها إلى صفقة قرن ومذاك أصبح المفهوم قيد التداول الإعلامي والسياسي وتمت مقاربته بمضامين ورؤى مختلفة كان القاسم المشترك فيها أن الصفقة المشار إليها تستهدف تصفية القضية الفلسطينية وإغلاق ملف الصراع العربي الفلسطيني بشكل نهائي .
وعلى فرضية أن ثمة صفقة حقيقية أم لا، وما دام الأمر يتعلق بفرضيات أو تحليلات للمضمون فمن وجهة نظرنا أن المسألة تتعلق حقيقة بإنهاء ملف الصراع العربي الفلسطيني، وأن ذلك الإنهاء أو تلك الصفقة مسألة متمرحلة في سياقها الزمني وفي أطرافها ونقطة البداية فيها كانت منذ زيارة الرئيس المصري أنور السادات للقدس في تشرين الثاني عام ١٩٧٧ حين تحدث عن أهمية إزالة ما أطلق عليه الحواجز النفسية بين العرب وإسرائيل، الأمر الذي مهد الطريق لسلسلة من الاتفاقيات والتطبيع بين بعض الحكومات العربية وإسرائيل ولعل الزيارة الأخيرة لرئيس وزراء إسرائيل لسلطنة عمان المثال الأقرب على ذلك . ناهيك عن اللقاءات المتعددة بين ساسة عرب ومسؤولين إسرائيليين في أكثر من عاصمة عربية وأجنبية والحديث عن تنسيق أمني بين بعض دول الخليج العربي وإسرائيل في مواجهة (الخطر الإيراني المزعوم) بمعنى أن تتحول إسرائيل من خطر على الأمن القومي العربي إلى ضرورة وحاجة أمنيه ومستقبلاً تنموية، وهذا هو حلم شمعون بيريز في كتابه المعنون شرق أوسط جديد والصادر منذ اكثر من عقدين من الزمن .
والحال إن ما تشهده المنطقة من أحداث تدفع باتجاه أن الصفقة قد بدأت وأن جملة ما يجري هو في سياق ذلك بدءاً من القرار الأميركي بنقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، وصولاً لإيقاف المساعدات الأميركية عن منظمة الأونروا والخاصة باللاجئين الفلسطينيين حيث يجري الحديث في الأوساط الأميركية أن الكونغرس الأميركي يسعى لاستصدار قرار يعرف اللاجئين الفلسطينيين بأنهم فقط أولئك الذين غادروا فلسطين بعد عام ١٩٤٨ وهم بالمناسبة وحسب الإحصائيات الفلسطينية لا يزيدون على خمسين ألفاً فقط ، يضاف إلى ذلك قرار الكنيست الإسرائيلي بإضفاء صفة الدولة القومية اليهودية على الكيان الذي كان يتبجح بأنه دولة المواطنين بغض النظر عن ديانتهم وأصولهم وهو من سوق فكرة أن ( إسرائيل دولة ديمقراطية علمانية ليبرالية عادلة وأمنة ) تماهياً مع الفكرة الأميركية أو ما يطلق عليه النموذج الأميركي .
وبالمحصلة يمكن القول: إن صفقة القرن ليست نصاً مكتوباً بين طرفين وإنما هي مشروع سياسي جديد قديم هدفه النهائي تصفية القضية الفلسطينية وحلها على حساب أهلها وشعوب المنطقة وتكريس إسرائيل دولة يهودية خاصة بالشعب اليهودي وإلغاء فكرة الدولتين وتوطين اللاجئين الفلسطينيين حيثما وجدوا، علماً أن عدد الفلسطينيين يزيد على ١٣ مليون نسمة ثلاث أرباعهم خارج فلسطين والتلاعب والعبث بأراضي الضفة الغربية وقطاع غزة عبر أشكال من الإدارة المستقلة الوهمية أو الإلحاق ودونما سيادة حقيقية من السلطة الوطنية الفلسطينية والسيطرة المباشرة أو غير المباشرة من سلطات الاحتلال على معظم أراضي الضفة الغربية عبر هندستها بما ينسجم مع ما يسمى الضرورات الأمنية التي هي في جوهرها احتلال مبطن .
إن أخطر ما في تلك الصفقة أن الأطراف القائمة عليها هي قوى كبرى دولية وإقليمية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية تساندها في ذلك أنظمة عربية عميلة ومرتهنة كانت وما زالت تؤدي أدواراً وظيفية تخدم مصالح القوى الخارجية لا مصالح أبناء الأمة العربية وشعوب المنطقة، تتساوق مع قوى تتاجر بالقضية الفلسطينية بهدف تحقيق أجندات ومشاريع تهدد الأمن القومي العربي، كل هذا يتم في لحظة ضعف تاريخي تمر بها المنطقة بفعل ما أصابها من إرهاب مدمر رافقته حالة انقسام وتشظٍ غير مبرر في الصفين العربي والفلسطيني ولجت من خلاله تلك القوى لتحقق في سنوات معدودة ما عجزت عن تحقيقه طيلة عقود مضت .
إن الحديث عن صفقة القرن ومضامينها وأهدافها ومخاطرها دون صياغة استراتيجية عربية وفلسطينية لمواجهتها وتشكيل وعي عام مطابق وحامل لتلك الاستراتيجية سيحولها إلى مرثية سياسية نتذكرها كل عام، كما هو حال وعد بلفور وسايكس بيكو دون طرح السؤال: ماذا علينا أن نفعل الآن وليس في الغد، فالزمن كالسيف إن لم تقطعه قطعك وقطًعك.
khalaf.almuftah@gmail.com
د. خلف علي المفتاح
التاريخ: الاثنين 19-11-2018
الرقم: 16839