مَرّت الكتابَةُ – وهي أهم اختراعات الإنسان بلا منازع – في أربعةِ أنظمةٍ كتابيّة عَرفتها الإنسانيّة، هي:
1- الإيديوغرافيا (أي الكتابةُ بالفكرة): وفيها يَدلُّ الرمزُ الواحدُ على عبارةٍ كاملة، أو جملةٍ كاملة.
2- اللوغوغرافيا أو الكتَابَةُ الصوريّة (أي الكتابَةُ بالكلمة): يشيرُ الرمزُ الواحد إلى كلمة واحدة.
3- الكتابةُ المقطعيّة (الصوتُ الصائتُ يندَرجُ ضمناً في الصوت الصامت)، وتتركّبُ الكلمةُ فيها من مقاطِعَ عدّة.
4- الكتابةُ الأبجديّة (الكتابةُ الصوتيّة الكاملة)، لكل رمزٍ فيها صوت خاص، وفيها يدوّنُ الصوامتُ والصوائتُ.
ومَيّزَ عُلماءُ اللغات كالبروفيسور يوهانس فريدريش ما بينَ الكتابة المُبتكرة (كالمسماريّة والهيروغليفيّة) والكتابة المقتبسة (كاللاتينيّة) معتمدينَ في ذلك على تحليل البنية الداخليّة والأشكال الخارجيّة لرموز هذهِ الكتابات.
وهنا بالتحديد يظهَرُ دور الشرق القديم (السومريون والأكاديون والآشوريون والفينيقيونَ وسواهم) في تاريخ الإنسانيّة، وهذا ما أكّده يوهانس فريدريش في كتابه المهم «تاريخ الكتابة» عندما قال: «إنّ التطوّر الأوربي الكبير متعدّدَ الجوانب يبدو بالمقارنة مُقلِّداً وسلبيّاً بشكل مطلق أمام الشرق القديم الذي ابتكرَ أوّل كتابةٍ للإنسانيّة».
ومن المحطّاتِ الأولى المهمّةِ في رحلةِ الكتابةِ الشائقة؛ المحطّةُ السومريّة حيث اكتشفَ السومريّون سُكّان جنوبِ بلاد الرافدين الكتابةَ المسماريّة، التي كانت تُنقشُ فوقَ ألواح الطين والحجرِ وغيرها، وأصبحت هذهِ الكتابة متداولة عند شعوبِ غربِ آسيا القديمة، ولَعلَّ أولى تلكَ المخطوطات اللوحيّة المكتشفة ترجعُ إلى سنة 3000 ق.م.
والمحطّة الثانية شديدة الأهميّة هي الكتابة المصريّة والمحطّة الثالثةُ والتي تأتي تتويجاً لما سبق «هي ابتكار الفينيقيين سكان السواحل الشرقيّة لحوض البحر الأبيض المتوسط نحو سنة 1100 ق.م. الكتابةَ الفينيقيّة التي ولدت على الأرجح بتأثير الكتابتين السومريّة والمصريّة القديمة، ابتُكِرتْ الأبجديّةُ الفينيقيّةُ المؤلّفة من حروفٍ لكلٍ منها صوتٌ معيّن، وامتازت بسهولة كتابتها، وكانت فيما بعد أساساً للكتابةِ في شرقِ العالم القديمِ وغربه و»عندما طوّر الإغريقُ أبجديتهم التي نقلوها عن الفينيقيين عام 403 ق.م. أصبحت أساساً للأبجديّة في الغرب، حيثُ أخذَ الرومان أبجديتهم عنها.
فأخذوا منها حُروفاً وأدخلوا عليها حروفاً أخرى. وسادت الأبجديّةُ الرومانيّة واللغة اللاتينيّة بلاد أوربّا إبان حكم الإمبراطوريّة الرومانيّة «.
لكنّ القفزة الكبيرة في مجال الكتابة وتطوّر الأدوات المعرفيّة للإنسان تمثّلت في اختراع الطباعة الميكانيكيّة على يد الصينيين عام 200م، وتطوّرت في أوربّا بصناعة الحروف البارزة والمتحركّة، ثمّ بصناعة آلة الطباعة منتصفَ القرنِ الخامسِ عشر (15) على يد الألماني يوهان جوتنبرغjohannes Gatenberg ما أدّى إلى طباعة الصحف والكتب بالملايين على الورق وكان هذا سبباً رئيساً في تطوّر حضاريٍّ نشهد اليوم ما وصَلَ إليه في شتى بقاع الأرض.
لقد تمكّنت الطباعةُ من نشرِ المعارفِ والعلوم على أوسِعِ مدىً، وبالتالي رفعت من الوعي الإنساني، وهي في نهاية المطاف تمكّنت من طرحِ كتابٍ ورقي زهيد الثمن بين يديّ القارئ، لا يُقارن لا من قريبٍ ولا من بعيد بثمنِ أو بوزن الكتاب الذي كان النُّساخ المحترفون أو عبيد روما المتمرِّسون ينسخونَهُ بعددٍ قد لا يزيدُ عن أصابعِ اليدِ الواحدةِ، سواء على أوراق البرديِّ أو على جلود الرق باهظة الثمن. جعلتِ الطباعةُ العلاقةَ بين الإنسان والكتاب علاقةً حميمةً طيّبةً، فيها الكثير من الألفة، ومع تعدّدِ وتنوّع وسائل إيصال المعرفة للمتلقّي من سمعيّة وبصريّة وسواها َظلّ الكتابُ هو الأكثر قُرباً من الإنسان حتى اللحظة والمفضل لديه كأداةٍ وكوسيلةٍ معرفيّة ومن الدلائل على ذلك – وهي كثيرة جداً – ما كتبَهُ آثر آسا بيرغر في كتابه «وسائل الإعلام والمجتمع / وجهة نظر نقديّة» من أنّ عام2003 شهدَ في الولايات المتحدة الأمريكيّة طباعةَ ونشر164 ألف كتاب، أي قرابة 450 كتاباً يوميّاً، منها 49 عنواناً مختلفاً في علمي الاجتماع والاقتصاد، و46 عنواناً قصصيّاً، و28 كتاباً في العلوم، و19 في الفلسفة وقد بلغت قيمةُ صناعةِ نشر هذهِ الكتب 23,7 مليار دولار أي أكبر من صناعتي السينما وألعاب الفيديو مجتمعتين.
إضاءات
د. ثائر زين الدين
التاريخ: الأحد 16-12-2018
الرقم: 16861