يرى المؤرخ الفرنسي بيير فيرميرين أن أهم الوقائع التي ميزت العام 2018 هي انتصار دمشق والمحنة السياسية التي تعصف بالرئيس ايمانويل ماكرون حيث قال فيرميرين لصحيفة لوفيغارو فوكس: سيبقى في ذاكرتي هذا الانتصار العسكري لحكومة دمشق بعد سبع سنوات من الحرب على سورية فانتصار الرئيس السوري بشار الأسد والجيش السوري هو خبر العام مع أن الوقائع كانت تشير بقوة في هذا الاتجاه منذ العام 2017.
ومن أهم أخبار نهاية العام 2018 أيضاً كان تخلي الأمريكيين عن القوات الكردية التي لم يبق لها خيارات كثيرة فإما التحالف مع أكراد العراق واقامة كردستان بالسلاح لكن روابط القوة لا تبدو مواتية وإما العودة الى الدولة السورية التي تسعى لاستعادة السيطرة على كامل أراضيها متأهبة لأي مواجهة مع تركيا أو أن يبيعوا أنفسهم الى السعوديين والمتطرفين من مختلف الأجناس ليبتدعوا نوعاً من «القاعدة» كردية فهناك من الأكراد في الشرق الأوسط ما يكفي لاستئناف حروب لعشرات السنين وهكذا وكما الغرب يكافئ حلفاءه ويحضر لحرب قادمة في وقت تم تقليص داعش الى حالة جمر تحت الرماد لا تحتاج سوى اعادة اشعالها.
الأمريكيون يريدون العودة الى الانعزالية والانكفاء على أراضي قارتهم الواسعة والأوروبيون اليوم عراة بإمكانهم فقط التعليق على الأخبار الدولية حيث ألقوا السلاح بعد الحرب الباردة ولم تكن الضربة الأمريكية الفرنسية البريطانية لسورية في 14 نيسان الماضي سوى مسرحية لتعويض الاعلان عنها في أيلول 2013 ولتحسين صورة الجيوش الغربية في هذه الحرب ولحسن الحظ أنها وقفت عند هذا الحد ولم تسبب حرباً مع الروس ، الأوروبيون اليوم بالكاد يتوصلون الى ضمان أمنهم الداخلي والحدودي الذي يشكل تحدياً كبيراً اضافة الى تحديات المناخ.
أستاذة العلوم السياسية كارولين غالاكتيرو وهي أيضا ضابط برتبة كولونيل كتبت أيضاً في صحيفة لوفيغارو : إنها الفرصة الأخيرة لفرنسا كي تستعيد تأثيرها في المنطقة هناك اتفاق يجري بين واشنطن وموسكو وأنقرة ونحن بعيدون عنه وهذا سيئ جداً بالنسبة لفرنسا فلم نعد على خارطة تفكير حليفنا الأكبر وأن يختلف الجنرال ماتيس مع الرئيس ترامب فهذا لايغير شيئاً من الاهانة الكبيرة التي لحقت بنا.
وتحت عنوان «سورية نقطة نهاية الامبراطورية « كتب توم ليونغو : الولايات المتحدة خسرت في سورية وأخيراً لقد كان لدى ترامب الشجاعة تقبل ذلك أمام العالم كله حيث أعطى الأوامر للقوات الأمريكية بالانسحاب.
سورية كان من المقرر أن تكون الجوهرة البراقة في تاج أمبراطورية الفوضى المخطط لها بضربة معلم تجعل كل الأهداف الأمريكية تحرز تقدماً بمساعدة الاسرائيليين والسعوديين وزعزعة الشرق تماماً بفتح الطريق الى دمار ايران وروسيا ولو أن حكومة دمشق سقطت لأصبحت سورية أسوأ من ليبيا بكثير لأنها كانت ستصبح مصدراً لفوضى مدمرة لعشرات السنين القادمة واقامة كردستان الموسعة كان سيضع الوسائط العسكرية الأمريكية والاسرائيلية على أبواب ايران كما أن تقسيم سورية والعراق واحتمال تركيا أيضاً وبعد تصفية أردوغان سيسمح للولايات المتحدة ولاسرائيل السيطرة على موارد البترول ثم تمويل الارهاب في اسيا الوسطى اضافة الى ذلك فان هذه الفوضى ستؤمن تدفقاً مستمراً للاجئين الى أوروبا لزعزعة استقرارها ما يدفعها للوقوع تحت سيطرة الولايات المتحدة ويمكننا أن نلحظ آثار هذا المخطط اليوم فالدعوات التي أطلقتها انجيلا ميركيل وايمانويل ماكرون الى التخلي عن السيادة القومية للاتحاد الأوروبي هي خير مثال على ذلك وهم يشعرون بأن المشروع يفوتهم وبالرغم من سلطتهم السياسية الضعيفة يدفعون مجالسهم التشريعية الى تجاهل المواطنين ، كم كان سيفخر جورج أورويل بماكرون لو سمعه يقول : «المواطنة هي معاكسة تماماً للقومية لأن القومية هي خيانة « .أيضاً الجنرالات الذين صرفهم ترامب من الخدمة بسبب معارضتهم لقراره بشأن سورية هم مثال آخر على ذلك فهؤلاء كانوا يعتقدون أنهم سينفذون بلقنة سورية والعراق وهم يحتاجون فقط الى مزيد من الوقت والوسائل.
ان التصرفات الخرقاء والمقززة لاسرائيل التي ضربت بصواريخها مطار دمشق الدولي تشكل علامة دامغة لهذه الحالة واذا راقبنا ترتيب أو تدابير اللعبة فإننا نلاحظ أن جميع الذين تسببوا بالحرب على سورية زالوا من السلطة مثل هيلاري كلينتون وأوباما أو سيفقدونها لاحقاً مثل ميركيل وماكرون ونتنياهو.
لقد كان دخول روسيا في الملف السوري ضروري جداً وكان لحظة انقلبت فيها كل الأفق الجيوسياسية فهناك من وقف بوجه الولايات المتحدة ونجح في ذلك حيث كان تحريك الدفاعات الجوية الروسية نحو سورية اعلاناً بأن روسيا بلغت الحدود التي لايمكن تجاوزها كما في القرم.
وقد برهن التدخل الروسي عام 2013 دبلوماسياً وعسكرياً عام 2015 أن الروس لايخافون من قدرات الولايات المتحدة في فرض قوتها على العالم وبإعلانه الانتصار على داعش وخروجه من سورية يسجل ترامب نهاية مرحلة شائنة من تاريخ الولايات المتحدة ، لقد مثلت سورية النموذج المرير لشراهة الطموح الامبريالي وفي عدد من الجوانب كانت ورطة لن تستطيع الولايات المتحدة وحلفاؤها تجاوزها لأن الوسائل اللازمة لذلك لم تكن لتتوفر أبداً وهذه الخسارة ستولد أخريات فالاعتداء الأمريكي تم معارضته بنجاح من مقاومة لم تكن يوماً معتدية والمراحل القادمة ستكون في أفغانستان وأوكرانيا ومن الآن فصاعداً سيكون هناك عالم ما قبل الأزمة السورية وعالم ما بعد الأزمة السورية.
ترجمة مها محفوض محمد
التاريخ: الأحد 6-1-2019
الرقم: 16877