يقيم ضجيج هذا السؤال حول موقع الغرب بعدما طرحه علينا قبل أربعين سنة المستشرق الفرنسي جاك بيرك في في الكوليج دو فرانس. كان يرجّح الفرضيّة بأنّ اقتران أميركا وأوروبا تم في 1945 وفق ثلاثة مهمات: إسقاط الشيوعية وإشاعة الديمقراطية وتكريس الأسواق الحرة في العالم. كانت النظرة الدينية مغايرة بين القارتين على اعتبار أن أميركا ولدت مضمخة بالإيمان المسيحي مع ظهور الحداثة في أوروبا ولكنها لم تشارك ولم تشعر بعناء تجاربها وليس هناك من تاريخ خاص يضغط به عليها وهي تشبه اليابان التي لم تحتج إلى مقدمات وتجارب ومعاناة وفترات انتقالية أي من دون أعباء النهضات والعقلانيات التي رفعتها وأشاعتها أوروبا.
وضع حجر الأساس للغرب كمفهوم منقوشاً باليونان والرومان ومن دون نقشة شرقية مصرية أو هندية . تجاوز المفهوم الجغرافيا وانحصر بأوروبا ليقفز فوقها ويضم أميركا. وابتعد المفهوم كثيراً عن انقسامات روما والقسطنطينية والبروتستانتية والكاثوليكية وتجاوز الأفكار والتجارب الاشتراكية والرأسمالية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونهضة الصين التي تستعد لتأكل الشمس.
وعندما ذابت الجغرافيا مجدداً في الاقتصاد أصبحت اليابان ودول النمور الآسيوية في الغرب مع أنها في أقصى إشراقة الشمس، وطغى على العقل والفكر والكتابات الفلسفية والعادية الانقسام المبتكر بين تسمية الشمال الصناعي «الحضاري» والجنوب المستورد و»المتخلف» والفقير وفيه بلاد الإسلام والعرب. بعد ذلك، اندثرت مصطلحات العالم الثالث والشمال والجنوب إلى قعر الألسنة ومستويات ضيقة ومبهمة. صار السؤال يفرّخ أسئلة : أين تقع أميركا وبريطانيا التي لم تكن تغرب عن مستعمراتها الشمس؟ أين تقع أوروبا الخارجة من رحم الدولة القومية إلى الاتحاد الذي تلوثه الأعباء فيصاب الأوروبيون بحنين نرجسي إلى الأرحام القومية والدينية الضيقة من جديد؟
أين يقع الشرق؟ أين يقع المسيحيون والمسلمون بين الغرب والشرق حيث تفرّخ الأديان والمذاهب المتكارهة والمتعصبة الضائعة؟ وفي أي شرق وأي غرب وما هو مستقبلهم بل ما هو مستقبل الأديان بالمضامين الصرفة النقية؟ وأين ستحط مراكب العلاقات الجديدة المستيقظة والمعقدة بين الإسلام والغرب وبين المسيحيين والمسلمين أو بين المذاهب الإسلامية التي لا صلح بينها ولا تفاهمات مقابل مذاهب المسيحيين الساعين إلى جمع الشرق والغرب وصب الملاط في شقوق الجدران السميكة المنهارة الفاصلة بينهم ؟
لا أعرف!
ولست مربكاً بأي جواب عن سؤال من هذه الأسئلة وغيرها المحكومة بعلاقات لا حدود لنزاعاتها وحروبها. هي تشبه ألغاز العقل المطمئن لعلاقات قايين وهابيل الذي لم يمت بحجر شقيقه إلاّ في ربيع العرب المستورد ويالتحديد في سورية. يصعب عليّ فك الإرتباط بين الشرق والغرب المختلطين إلى صورة لا تشبه اختلاط الزيت بالماء ولا السكر أو الملح بالماء بل إلى كليهما معاً بما يجعلهما قارات مفتتة في الاندفاع التصالحي والعدائي المترجرج بلا وجهة معينة أو هدف واضح وحتى من دون أي تصور ناجح لما ستقع فيه البشرية في المستقبل.
ولست تائهاً بموروثات الغرب والشرق ومنجزاتهما الفكرية والإيديولوجية والدينية والسياسية والثورية والتدميرية والنقدية لرسم الحدود المستحيلة بينهما تتقدمها التوازنات الدولية الاقتصادية الكبرى التي لم تعد رهينة الإرادات الحازمة في إدارة الدول أو القرارات المركزية في ضبط سياقات التداخلات التجارية والثقافية بقدر ما هي مركونة بما صار يعرف بالسوق الدولية تجاوزاً لاختلاط السياسة بالتاريخ والجغرافيا والأعراق والأديان والأيديولوجيات.
لنقل إن الغرب الأميركي استعان بالمسلمين لإسقاط عدوه الشيوعي في 1989، لكن المسلمين وقعوا في فجوة السقوط وكوارثها. بالمقابل، كانت النتائج عينها مقلقة لأوروبا الغربية الموحدة حيال التدفقات الأوروبية الشرقية عليها، وتوسع الافتراق عندما صب الغرب الأميركي عظمته على 11 أيلول 2001 معلناً محور الشر والمباشرة بخلع أبواب الشرق الإسلامي من العراق حيث تعمق الافتراق وطغت التحالفات، وصولاً إلى احتراق زهرة الياسمين في تونس ثم احتراقها وتفتحها مجدداً في دمشق. أين يقع الغرب بعد ذلك؟ وأين يرمي الباحثون ركام النظريات والكتب التي صبغت عصرنا بصراع الحضارات والثقافات أو بحوارها وتجاورها وتكاملها؟ مع أنني أعلنت عن فكرة «انتحار الحضارات» عنوان مؤلفي المقبل مبتعداً عن كل هذه العناوين التي تراكمت في طريقنا.
إن السؤال المتشعب بحثاً عن الغرب والشرق قد يحضر بقوة بعدما راحت الولايات المتحدة الأميركية ترسّخ شعارها السخيف مع ترامب مؤخراً : أميركا أولاً. أتذكر فؤاد السنيوره الذي أعلن لبنان أولاً وصفق له المسيحيون والمسلمون بقفا أيديهم. كان كلاماً أميركياً يؤسس لفلسفة النأي بالنفس والقوميات في الشرق. راحت أميركا بعد ذلك تخرج من شراكاتها الدولية تباعاً ومن أعبائها المالية الكبيرة قياساً إلى أعباء الدول الأخرى باعتبار أن النظرة العالمية إلى أميركا كادت أن تسميها دولة العالم. ها هي تخلع معطف الألف واللام لتصبح لا الدولة العظمى بل دولة عظمى ترصد الميزانيات الضخمة لرفع جدران الباطون المسلح مع جيرانها في المكسيك، وتمحو القدس وفلسطين بالواسطة وتكاذب المسلمين، وهي في الوقت الذي تهندس قوميتها، تدس أيديها الكثيرة في جيوب الدول الكثيرة شرقاً وغرباً لتغذية ميزانياتها ومط أسواقها ثم تباشر بسحب بقايا قواتها من سورية التي تفتح ذراعيها لعودة العرب والجامعة العربية إليها أو عودتهم إليها.
هو السؤال الذي لن نقرأ جوابه النهائي. قد نجده لدى أشقائه أحفاد قايين وهابيل السوريين في الأصل المتصالحين في الهند وفي روسيا وفي أقصى الشرق والغرب على السواء، لا لأنه سؤال أعادني إلى أسطورة الجشع وإلى تفاحة آدم وحواء والى ما يشبه أيضاً التفاحة التي سقطت فوق رأس نيوتن وفجته ليخلد إلى الراحة، بعدما اكتشف قانون الجاذبية وعلق اسمه فوق جبهة العلم، بل لأنه سؤال أشبّهه بالراقصة سالوميه التي تلبس ثياب الأرض فتخالها المرأة، المرآة التي تتزين في الأمكنة والأزمنة كلها ولن تراها جيداً.
الدكتور نسيم الخوري
التاريخ: الثلاثاء 8-1-2019
الرقم: 16879