ما تعرضونه عبر أعمالكم ليس نحن، وإنما شخصيات من بنات أفكاركم مُعقمة مُفبركة مُفلترة، يا من تدّعون أنكم تنقلون نبض حياة الفقراء ومدقعي الفقر، وتغوصون من خلال كاميرات أعمالكم الدرامية إلى عمق المأساة في أحياء وعشوائيات يحاول الناس فيها نفض غبار الألم وإن قليلاً، وترصدون بعين ثاقبة تداعيات الحرب الشرسة على المواطن البسيط وانعكاساتها على تفاصيل حياته وما أحدثته من تحولات وخلل في البُنى الاجتماعية .. إنكم تفعلون ذلك كله من خلف نظاراتكم ووفق منظوركم وفهمكم الشخصي للأمور وبما يتناسب مع فكرة التسويق ليس إلا .
دعونا نجر مقارنة بسيطة بين صورة الفقراء الذين يظهرون في المسلسلات وبين الصورة الحقيقية لهم في الواقع وطبيعة اللغة وما يتم استخدامه من مفردات وألفاظ، وآلية تفكير وتعاط مع الواقع، ألا تجدون بوناً شاسعاً بين الحقيقة والكذب الذي ترشّونه عبر نصوصكم ؟.. حسناً دعونا ننظر إلى الأطفال المنحدرين من عائلات شديدة الفقر وكيف يتم الترويج لواقعهم عبر الدراما التلفزيونية وكيف هي حقيقة حياتهم .
إنكم تجمّلون الفقر وتحمّلون الشخصيات كلاماً وحواراً لا تستطيع حمّله ، فتظهر غريبة بعيدة عن الناس، وإن كانت هناك أعمال حققت اختراقاً للتعاطي السطحي مع هذه الشريحة كما هو حال مسلسل (الانتظار) إلا أن عدد هذه الأعمال يبقى ضئيلاً جداً وخجولاً أمام كم التشويه الذي يُقدم، فعندما تجد مجموعة أطفال عمرهم أقل من عشر سنوات يدخنون ويعملون في أعمال تحتاج إلى جهد عضلي وكلامهم فيه الكثير من الالفاظ ربما الخارجة عن الأدب ولكل منهم منزل فيه أم وأب وأخوة وربما أعمام وزوجة أب.. أسأل هنا أين هم على الشاشة الصغيرة ؟.. إننا لانراهم إلا في أماكنهم الحقيقية بين الأزقة والشوارع الضيقة ، أما صورتهم على الشاشة فلا تُعبّر أبداً عن مضمون حياتهم وآلية تفكيرهم ونظرتهم للأمور، وينجر هذا التشويه إلى عائلاتهم التي تُقدم كما رسمها الكاتب في خياله ، لأنه هكذا يرى واقعهم البائس وهو يدخن أرجيلته في المقهى داخل أحد الفنادق ، ويكمل المشاهد الأخيرة من مسلسله وكمبيوتره المحمول على الطاولة أمامه ولا يرى مما كتبه إلا أطفال ربما يبيعون العلكة في الشارع المجاور للمقهى أو سبق أن مسحوا له زجاج سيارته وهو يقف على إشارة المرور ، يرمقهم من وراء الزجاج بنظرة ليستشف منها ما يمكن أن يكتبه عن حياتهم وتشابكاتها وتفاصيلها ، وهو جاثم على كرسيه هناك يحتسي كوباً من الشاي الساخن .
والأنكى أن ما يقدمه مثل هذا الكاتب يجد منتجاً ومخرجاً وممثلين يتبنونه ظناً من بعضهم أنه الحقيقة المرّة ، في حين يرى فيه آخرون أنه مجرد عمل وفقط، وفي كلتا الحالتين فإنهم بذلك يشاطرون الكاتب أرجيلته ونظرته من خلف زجاج النافذة ، وهم يصورون المشاهد المتتابعة ليقدموها إلى الناس على أنها تلامس واقعهم وعمق تفاصيل حياتهم !..
فؤاد مسعد
fouaadd@gmail.com
التاريخ: الأربعاء 9-1-2019
رقم العدد : 16880