على وقع التباطؤ الأميركي في استكمال عملية الانسحاب المزمعة من سورية تنفيذاً لقرار ترامب، وبروز معطيات جديدة تضع الانسحاب نفسه في خدمة مشاريع ومخططات جديدة، عاد الكيان الصهيوني مجدداً لممارسة لغة العدوان والعربدة ـ اللغة الوحيدة التي يتقنها منذ إنشائه ـ وذلك في إطار تصديره لأزماته الداخلية على أبواب انتخابات اضطرارية مبكرة، وفي محاولة يائسة لطمأنة الجبهة الإسرائيلية المصابة بنكسة أمنية ونفسية، بسبب هبوط مستوى الرهان على بقاء القوات الأميركية في سورية كضامن رئيس لما يسمى أمن إسرائيل ومدافع وحيد عن الطموحات التوسعية والعدوانية لها على مستوى المنطقة.
لا ريب بأن سلسلة الاعتداءات الإسرائيلية الفاشلة على السيادة السورية خلال سنوات الحرب الارهابية، وإن وضعها العدو تحت عناوين مضللة كمنع وصول أسلحة «كاسرة للتوازن الإقليمي» لأيدي المقاومة في لبنان أو مناهضة ما يسمى الوجود الإيراني المعادي لإسرائيل في سورية، تأتي في سياق المحاولات اليائسة لتغيير قواعد الاشتباك القديمة في الجولان السوري المحتل ورسم معادلات جديدة على مستوى المنطقة تراعي مصالح وأطماع إسرائيل التي تلقت هزة عنيفة بسبب فشل حربها على لبنان عام 2006، وتمكن حزب الله المقاوم في لبنان بمساندة سورية وإيران له خلال تلك الحرب من صياغة معادلة ردع جديدة ساهمت كثيراً بالحد من عدوانية إسرائيل وفرض التقوقع على الإسرائيليين ضمن دائرة مخاوف وهواجس وجودية مستمرة، إلى أن وجدت بصيص أمل في الحرب الارهابية التي شنت على سورية، لطرح نفسها كداعم وراع مباشر للجماعات الإرهابية منذ الأشهر الأولى للأزمة، وفي المقابل أظهرت الجماعات الارهابية في سورية وخاصة تلك التي نشطت في المنطقة الجنوبية على تخوم الجولان المحتل استعداداً والتزاماً غير مألوفين إزاء خدمة الأهداف الإسرائيلية في المنطقة وفي طليعتها إضعاف سورية وإدخالها في الفوضى الأميركية المرسومة للمنطقة وصولاً إلى فك عرى التحالف الاستراتيجي القائم بينها وبين إيران وحزب الله.
في غضون ذلك لم يكن سراً أن الكيان الصهيوني وضع في قمة أولوياته معتمداً على ما لديه من نفوذ كبير في الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية، إلى جانب علاقاته المشبوهة مع دول التطبيع العربي تكريس وجوده الاحتلالي في الجولان السوري المحتل كأمر واقع، من أجل الحصول على اعتراف أممي أو دولي بهذا الخصوص، ولكن هذا المخطط واجه الفشل مراراً لعدة أسباب جاء في مقدمها تمسك أهلنا في الجولان بهويتهم الوطنية وبوطنهم الأم سورية ومقاومتهم لكل إجراءات الاحتلال القمعية، وكذلك تمسك سورية شعبا وحكومة وقيادة بحقها باسترجاع أرضها وسيادتها كاملة على كل شبر من أراضيها ورفضها أي حلول سلمية خارج هذا المضمون، ووقوف الكثير من دول العالم إلى جانب حق سورية ومنعها تمرير أي مخططات من هذا النوع سواء في مجلس الأمن أو في الجمعية العمومية، وهذا ما جعل طموحات إسرائيل بالاستيلاء المستمر والدائم على الجولان المحتل وفرض سيادتها وقوانينها عليه أمراً بالغ الصعوبة، كما أنه بات بحكم المستحيل مع عودة سورية إلى سكة التعافي من الحرب الارهابية المفروضة عليها وامتلاكها أوراق قوة جديدة لم تكن موجودة في السابق مما يمكنها من إعادة فتح ملف الجولان مجدداً مع فرص كبيرة لاستعادته إما سلماً أو حرباً.
إدراك العدو الإسرائيلي لمتانة وقوة المحور الذي تتموضع فيه سورية مع المعطيات الجديدة المتعلقة بالانسحاب الأميركي «الموعود» إضافة إلى تسلمها منظومة دفاع جوي روسية متطورة من طراز اس 300، وانهيار الجماعات الارهابية في معظم الأراضي السورية وخاصة تلك الجماعات التي كانت تعول عليها لإقامة منطقة عازلة على تخوم الجولان السوري المحتل، أوقعه في حسابات خاطئة جعلته يتصور أن قيامه بشن عدوان صاروخي فاشل بين الحين والآخر يمكن أن يرهب سورية أو يخيفها أو يرغمها على القبول بإملاءات وشروط جديدة، من حجم القبول بفك تحالفها الاستراتيجي مع إيران وحزب الله وباقي حركات المقاومة في المنطقة، والدخول في عصر التطبيع الذليل الذي دخله بعض المهزومين العرب ويدخله اليوم بعض أنظمة التبعية والخنوع بإشارة من واشنطن. من سوء طالع الكيان الصهيوني أنه مع كل حماقة يرتكبها حيال سورية يكتشف عجزه الأزلي عن لي ذراعها وخوفه وقلقه من عودة سورية إلى تنشيط جبهة الجولان الجبهة التي يخشاها باستمرار، والمؤكد أن تكرار العربدة والحماقة لا تحصن الأمن الإسرائيلي بل تهشمه وتزيده ضعفاً، وربما ما تبقى من «عقلاء» في إسرائيل يتساءلون اليوم هل استطاعت العربدة المتكررة أن تركع الشعب الفلسطيني وتجعله يسلم بالأمر الواقع فكيف بسورية الشجاعة التي تحمل لواء المقاومة وتشكل الأمل المتبقي لكل المقاومين والمظلومين وأصحاب الحقوق في منطقتنا..؟! ليست المرة الأولى وربما لن تكون الأخيرة التي يقدم فيها العدو الإسرائيلي على ارتكاب حماقة العدوان ضد سورية مبرراً ومتذرعاً، ولكنه مع كل فشل يعتريه يؤكد للجميع بأنه خائف ومأزوم وأحوج ما يكون لمن يطمئنه وليس هناك بين حلفاء سورية من يفعل.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الأحد 13-1-2019
الرقم: 16883