فيما بدأ الأميركيون بتفكيك قواعدهم وسحب قواتهم المحتلة من منطقة شرق الفرات تنفيذاً لقرار ترامب، متجهة نحو قواعد لها في العراق في ما يشبه إعادة تموضع جديدة قريبة من مسرح الأحداث، توحي طريقة الخروج الأميركي نفسها والدعاية والسجالات التي رافقتها أن استراتيجية الفوضى «الخلاقة» التي ركبتها وانتهجتها واشنطن في المنطقة منذ أكثر من عشر سنوات وأنتجت ما يسمى «الربيع» العربي المدمر، لاتزال قيد الاستعمال والاستثمار لجهة تكريس المشكلات وخلق الذرائع التي تبقي على النيران قيد الاشتعال لفترة قد تطول.
القوات الأميركية التي دخلت الأراضي السورية بصورة غير شرعية متذرعة بمحاربة الارهاب الداعشي الذي كان بالأصل نتاج السياسات والمخططات الأميركية المكشوفة في العراق والمنطقة، تخرج من سورية هذه الأيام ولدى قادتها في البنتاغون رغبة بالحفاظ على أمن ومصالح الكيان الصهيوني والعودة ولو من باب العدوان ـ كما تفعل غارات التحالف الأميركي ـ تحت أي ذريعة كانت، ولو اضطروا لاختراعها، ومن المؤكد أن لهم بين الجماعات الارهابية المتبقية في محافظة إدلب وغربي حلب من هو جاهز لخدمتهم في هذا المخطط الخبيث، وقد كرر مستشار الأمن القومي جون بولتون الذي جال في المنطقة مطمئناً الكيان الصهيوني قبل أيام الاسطوانة المشروخة ذاتها حول الأسلحة الكيماوية متوعداً ومهدداً بأن بلاده ستستخدم القوة في سورية مرة جديدة في حال تم استخدام هذه الأسلحة، وليست واشنطن معنية بأي تحقيق دولي قد يجري بعدها ولو أثبت بالدليل القاطع أن أدواتها هم من قاموا بالفبركة أو الاستفزاز.
يحتفظ الأميركيون المنسحبون تكتيكياً ـ على ما يبدو ـ بذريعة ترضي الكيان الصهيوني المتوجس والقلق، وهي مناهضة ما يسمى النفوذ أو الدور الإيراني في سورية وهو الدور الذي أثبت فاعليته في محاربة الارهاب الداعشي في سورية والعراق، وفضح زيف ادعاءات واشنطن ومن معها من حلفاء وأدوات بخصوص محاربته، حيث كشفت مجمل الأحداث والتطورات المتعلقة بالتمدد الداعشي بين سورية والعراق أن آخر هموم واشنطن وحلفائها محاربة هذا الارهاب الذي نما وترعرع على أيديهم وتحت أنظار تحالفهم الدولي المزعوم لمناهضة داعش، كذلك يحتفظ الأميركيون بذريعة أخرى تؤرق النظام التركي الذي يملك حسابات خاصة في سورية بعيدة في جوهرها عن الحسابات الأميركية وتتعلق باستعادة النفوذ العثماني القديم وتوسيع التدخل التركي في قضايا المنطقة لحساب الأطماع المتجددة، حيث تحاول إدارة ترامب أن تقنع المليشيات الكردية في الشمال السوري مرة جديدة أنها محمية رغم الانسحاب، وأن واشنطن لم تتخل عنها إزاء الطموح التركي للقضاء عليها بوصفها تهديد خطير لأمنه القومي، وهو ما حاول ترامب أن يلقنه لأردوغان ولخصومه الأكراد دفعة واحدة، حين هدد النظام التركي بحرب اقتصادية قاسية ومدمرة في حال هاجم حلفاءه الأكراد، وفي الأخبار المتعلقة بزيارة بولتون للمنطقة أنه حذر المسؤولين الأتراك من المساس بالمليشيات الكردية الأمر الذي كان سببا في عدم استقباله من قبل اردوغان.
وسواء كان ترامب جاداً في تهديده لتركيا أم كان يغرّد لمجرد التسلية والاستعراض فقد أحدثت تصريحاته بلبلة وارتباكاً لطموحات أردوغان وهو الذي ما زال يعاني مشكلات اقتصادية بسبب عقوبات أميركية تم فرضها قبل أشهر وأدت لانهيار كبير في قيمة الليرة التركية وهي نقطة ضعف أردوغان، في حين لم يتضح بعد ما إذا كان الأكراد قد وقعوا مرة جديدة في فخ الوعود الأميركية .
التصريحات التي أدلى بها كل من بولتون وبومبيو بخصوص مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي من سورية، وكذلك القمة التي جرت بالأمس في وارسو بإشارة من واشنطن تحت عناوين عديدة على رأسها تشكيل تحالف عسكري جديد من بعض الدول العربية وإسرائيل على نية مواجهة إيران والضغط عليها للتخلي عن ما يسمونه «طموحاتها النووية» والتنازل عن دورها الحيوي، تفسح المجال أمام تساؤلات كثيرة بخصوص جديد الدور الأميركي في المنطقة، وهل سيكون محصوراً في خدمة الكيان الصهيوني الذي يضخم فزاعة مايسميه «النفوذ الإيراني» في المنطقة ويستخدمها مبرراً للمزيد من العربدة والعدوان وزيادة التوتر، أم سيرسم وفق الاستراتيجية الأميركية السابقة التي لطالما استثمرت في فزاعة إيران لإفراغ الخزائن الخليجية على صفقات السلاح الضخمة التي لم تجد تصريفاً لها إلا في الصراعات العربية العربية كما يجري اليوم في اليمن وليبيا والعديد من الأماكن وكذلك في دعم الارهاب الذي هشم المنطقة وأهدر دماء أبنائها وثرواتها.
في كل الأحوال وبالرغم من كل ما يثار حالياً من تصريحات وتهديدات يعتبر خروج الأميركيين من سورية حدثاً مهماً لسورية وحلفائها ولا يمكن تصنيفه إلا في إطار الانجازات التي تحققت عل صعيد محاربة الارهاب وتحرير معظم الجغرافيا السورية من الجماعات الارهابية ومن داعميها، لأن الاصطدام مع الأميركيين كان عنوان المرحلة القادمة بعد تحرير محافظة إدلب من الجماعات الارهابية، ومن الحكمة والتعقل أن يتعلم الأميركي من دروسه السابقة وينسحب نهائياً من سورية إذ لا مستقبل للأميركيين في المنطقة مهما طال وجودهم فيها عبر عدد من القواعد المتناثرة هنا وهناك، لأن شعوب المنطقة هي التي ستقرر مصيرها ,ومع رئيس مثل ترامب ستظل مصلحة أميركا وإسرائيل لها الأولوية ولا عذر للمخدوعين أو المتوهمين.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الخميس 17-1-2019
رقم العدد : 16887