منذ أن وضع ادونيس كتابه المهم جدا الثابت والمتحول, ولحد الآن وهو مازال يخلخل الفكر ويقلبه على وجوه عديدة, يضرم النار بكل ما حوله, لم يترك منطقة ما في ثقافتنا العربية إلا واشعل بها عود ثقاب و ليس للتحول لرماد, لا, بل لتتقد من جديد, وربما يعرف الكثيرون ممن يعملون بالأرض أن الكثير من الشجيرات والنباتات, إذا ما اضرمت بها النار واحترقت تعود اكثر قوة ونضارة وخضرة فيما بعد.هل يفعل أدونيس غير ذلك, في زمن الشعر الذي صدر منذ عقود من الزمن, يقول بما معناه: (الشعر رؤيا والرؤيا قفز خارج حدود الزمان والمكان) وكم هو مؤلم أن نقول اليوم إننا حتى الآن لم نمتلك الرؤيا التي يتحدث عنها الشاعر, لا في اللغة ولا في غيرها, خطط مستعجلة توضع اليوم لتمحى غدا, ولا احد يدري كم مرة كتبنا ومحونا, الم يقل الشاعر الاخطل الصغير: يبكي ويضحك لاحزنا ولافرحا كعاشق خط سطرا في الهوى ومحا؟؟
مالنا نكتب على الرمال, على الماء, لم لا نكتب بنبض القلب, ومن شغف الحياة, هذه اللغة النضرة التي فرطت من كثرة الاستخدام هي اليوم بأمس الحاجة إلى إعادة جمرها, شحنها بدلالات جديدة, أدونيس المفكر والشاعر, والناقد يفعل ذلك, وهو يفجر الطاقات الكامنة في مفرداتنا اللغوية, ماذا لو جرب أحدنا أن يعود إلى معجم لغوي يقدم تطور المعاني ويبحث عن معنى كلمة ما, وكيف وصلت اليوم إلى معنى واحد محدد, بينما مرت بعشرات المعاني الجميلة والأنيقة, لحد التناقض, من يفعل ذلك فسوف يعمل على متعة الاكتشاف اللغوي.
شعراؤنا اليوم تجمدوا عند الكثير من المفردات التي يبست وكادت تتساقط من فرط جمودها, لا ما ء ولا نضارة فيها, وليس الأمر مشكلة اللغة, بل مشكلة من يكتب بهذه اللغة, فهي (اللغة) كائن حي له نضارته, نضجه, شبابه و شيخوخته, موته, وهي أيضا نبضنا, ولكن على الأغلب نبضنا أصابه الصدأ حتى كاد يتهرأ مما لحق به, في هذا المنحى دائما علينا أن نقرأ من يقدمه ادونيس و في كل كتبه, اعماله الشعرية.
مستقبل الشعر
جديد الشاعر كتاب مهم جدا صدر عن دار التكوين بدمشق, حمل عنوان: النص القرآني وآفاق الكتابة, يتوزع الكتاب على مجموعة من العناوين الثرية التي تجعلك متربصا بالكتاب إلى ان تكون قد أنجزته, ولكن من المفيد أن نقف عند عنوان مهم جدا جاء تحت عنوان: مستقبل الشعر, شعر المستقبل, ومما قاله في هذا الفصل كرؤيا ايضا: فيما لو كنت سأعيش في القرن المقبل, هكذا أميل إلى القول إن الشعر سيزداد ارتباطا باللامرئي, بالحقائق الداخلية – القلبية سيزداد رفضا لكل ما يجعل منه إملاء من خارج, أو اندراجا في ايديولوجيا, أو نظاما ما, او مؤسسة ما و سيزداد وثوقا بأن له حقائقه الخاصة, مقابل الحقائق الاخرى التقنية والنصية, والشعر سوف يسبر الاغوار التي يعجز الاعلام عن الوصول إليها ستزداد هيمنة مناطق القلب والحب والسؤال والدهشة والموت وفيما سيزداد وعي الشاعر بأن مدى الصحراء يتسع وعيا للشعر غائية و لكن ليس بالمفهوم التقليدي.
ربما سيعمل الشاعر على ان يدخل في كتابته الشعرية عناصر كثيرة تنتمي إلى المسرح والرواية والفلسفة والعلم والتاريخ وغيرها وعناصر كثيرة ياخذها من خارج الكلام من الفنون الاخرى ومن الواقع واشيائه…وفيما سيحدث الشعر هذه الانقلابات في نظام الكلام, وفيما سيكون النص الشعري أشبه بلجة تتصادم فيها شظايا التاريخ والعالم وبؤرة تتلاقى فيها الأزمنة والأمكنة القديمة والجديدة والنثر والوزن العلم والحلم,فإنه سيزداد تمركزا حول الرغبة واللذة وانبجاسا عنهما وفيهما.
ستكون القصيدة أشبه بنهر تجري أنهار كثيرة, وسوف تكون بوصفها رغبة ومتعة اختراقا واباحة وتشكيلا خلاقا متواصلا لم يتشكل, لكن النهر الذي سوف تسبح فيه سيكون الكون كله, مجموعا في جسد اللغة, ويخلص إلى القول: قال هيجل الفن أصبح من الماضي ويطيب لي أن اقول: إنه ينتمي إلى المستقبل, وأن اذهب إلى أبعد من ذلك فأقول إن المستقبل هو الذي ينتمي إلى الفن, وأن وقتا ينتهي فيه الشعر, لن يكون إلا موتا آخر, ليس للشعر زمن, الشعر هو الزمن.
دائرة الثقافة
التاريخ: الاثنين 28-1-2019
رقم العدد : 16895
