من أصعب ما تواجهه شعوب الأرض اليوم، أو في عصر اليوم كما يقال، أن الغرب المتصهين نتيجة لوصول الليبرالية بثوبها الجديد إلى فشل واضح في مواصلة البناء المعقول للدولة، والمجتمع على أسسٍ طرحتها في عقيدة السوق الحرّة، وفي تحرير العقائد والمفاهيم من أشكال المعايرة السلطوية لها حتى ينتفي الاستبداد بالحرية الفردية، والاجتماعية، ويتحقق العدل بالدولة القانونية الرشيدة، وبناء عليه فقد وصلت الليبرالية بتطوراتها العولمية الأخيرة إلى خلق فجوة كبيرة على صعيد مجتمعها بين الفئة المالية القليلة التي تتحكم بالاقتصاد الوطني، والكثرة الشعبية الساحقة التي تدهور مستوى حياتها المعيشية إلى ما يقترب من خط الفقر، والناتج المهم اليوم أن المعادلة التي استخدمت إمبريالياً لتدمير النظام الشيوعي العالمي وكانت: ليس بالخبز فقط يحيا الإنسان، فالحرية أهم للإنسان من الخبز ذاته؛ انقلبت اليوم في تطورات الليبرالية إلى أزمات مالية، واقتصادية تصبح معها الليبرالية عاجزة عن تأمين الخبز كما كانت عليها، ولا تستطيع السماح بالحرية لمن يطالبون بها، ولذا فقد استنّت للخروج من أزمتها سنّة تعطيل الحياة القانونية الدولية المتوافق عليها بعد الحرب العالمية الثانية، وصارت ملامح النظام الدولي الذي تقبل به تقوم على المزيد من التنكّر لوقائع علاقات العالم القائمة على العدل، واحترام السيادة، وإشاعة روح الاستفراد بالأمم المختلفة لكي تحقق المزيد من نهب الثروة الموجودة فيها، والمزيد من تعطيل المشاريع الوطنية القائمة على مفاهيم الاستقلال والسيادة.
ومن غريب الحال أن ترصيد الحجم الكبير من المال والإعلام المضلل لاختراق قيمة الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان على الصعيد الدولي يجعل منظومة السلوك الليبرالية قائمة على المزيد من الكذب، والدّجل، والخداع فهذا هو ماكرون يعلّم المصريين كيفية ممارسة الحرية والديمقراطية بين صفوف الشعب، وهو قادم إلى مصر بعد أن سجن الكثير من جماعة الستر الصفراء الذين يطالبون بتغيير نهج الاستغلال الاقتصادي البشع للشركات التي أتت بماكرون، وتولّى من الإيليزيه تحقيق مصالحها ولو على حساب إفقار الأغلبية الساحقة من الشعب، وما يلفت أن مسؤولاً في الاتحاد الأوروبي يصف السترات الصفراء بالمخرّبين لأنهم خرجوا على إرادة ماكرون وسلطته، ويصف المتمردين على الدستورية في فنزويلا بالشجعان. ووفقاً لمقتضاه لم يعد المتابع في المجتمع الدولي مقتنعاً بأن القيم الغربية وأنموذج الحياة الغربي مليئاً بالتمسك بالحق والحقوق الفردية والاجتماعية، كذلك لم تعد الحقيقة، أو الحقائق هي ما يحرّك سياسات الليبرالية المتصهينة كما كانوا يدّعون ويضلّلون بسطاء العالم حتى حينه، وما نراه أن النظام الغربي الليبرالي تتصدّع العلاقات السياسية، والاقتصادية بينه خاصة بعد أن اقتنع الأوروبيون أن ترامب يقود أميركا إلى التخلّي عن مصالح حلفائه تحت قاعدة أميركا أولاً، ولا يسلم حلفاؤه من الخسائر التي يمنون بها جرّاء سياساته الاستبدادية في العلاقات الدولية القائمة على التدخل في الشؤون الداخلية للأمم الأخرى، وعدم احترام قواعد عمل القانون الدولي، ومواثيق الأمم المتحدة.
وعلى هذا الحاصل فالعالم اليوم حيث لم يتشكل بعد النظام الدولي المتعدد القطبية بصورة متوافق عليها كما كان عليه النظام المعني بعد الحرب العالمية الثانية 1939-1945م لم تتوصل دوله إلى تثبيت قواعد الأمن والسلم الدوليين، على أسس من احترام سيادة الأمم على أرضها، ومتطلباتها المصيرية، فالاستبداد الأميركي، وروح التحكّم التي نراها من ترامب تعكس صورة عالمٍ يشهد أبشع أشكال تحدّي إرادة الإنسانية في عالم للخير، والحق، والجمال خصوصاً حين ينفرز فيه واقعان: واقع دول، وأمم صاعدة كمنظومة البريكس، ومن له علاقات معها؛ وواقع النظام الغربي الليبرالي المتراجع في كافة بُناه. وفي حالة من تراجع النمو، والتطور في النظام الليبرالي الغربي نجد هذه الرغبة الجامحة في الغطرسة الدولية لخطاب القوة، والقصد الواضح لتوتير العلاقات بين الأمم تحت هدف الفوضى الخلّاقة لكون تدمير الآخر وعدم السماح له بتراكم الإنجاز والتقدم هو الحل الذي تتبنّاه الليبرالية المتصهينة اليوم كرد فعل على مآلاتها في النظريات والتطبيقات، والحال عليه ما زلنا نجد في المجموعة العربية من لم يلتقط بعد اللحظة التاريخية الراهنة ويتعرّف على الخيارات الوطنية، والقومية، والدولية اللازمة له.
وما زال بين العرب مَنْ يرى الحل لبلده بالتبعية، وليس بالاستقلال والسيادة، ومن يفترض دوام سلطته بالتنازل عن حقوقه وحقوق أمته، ويضع كلّ ما يملكه في سلّة أعدائه خشية إغضابهم عليه فهو خاسر مع العلم أن كلفة إغضاب الأعداء من الحلف الغربي المتصهين هي أقل بكثير من كلفة إرضائهم. ألم تتسبب لنا تابعية الأعراب، وخروجهم عن نهج المقاومة بصفقة القرن؟!. ألم تتسبب لنا سياسة إرضاء الأعداء بالتنازل عن الحقوق مثال: كامب ديفيد، وأوسلو، ووادي عربة بإعطاء إسرائيل كيان العدوان الفرصة لرفع سقف التنكّر للحقوق العربية المغتصبة والشروع بتهويد الأراضي المحتلة من دون أخذ القرارات الأممية ذات الصلة بأي اعتبار؟! ألم تتسبب لنا سياسات الجامعة العربية التخاذلية بخلق مجموعة اعتدال مزعومة لتكون ضد منظومة المقاومة المطلوبة بتوفير بيئة الهجوم على النظام الجمهوري العربي لتفكيك دوله، وتفجير مجتمعه حتى تصبح إسرائيل المركز الإقليمي الأقوى وتتحكم حينها بصورة الوجود العربي برمته؟!. وفي وقتنا الراهن حين انخرط الأعراب بمفهوم الربيع والثورات ما الذي ربحوه غير الانقسام فيما بينهم، والتعادي وتشكيل الأحلاف ضد قطر مع أنها ضالعة بسفك الدم العربي مثل مَنْ تحالف عليها.
وبعد قرابة العقد من الزمان على التحالف الأمروصهيوني الإرهابي على بلدنا سورية، ومعها العراق، واليمن، وليبيا ما الذي استنتجه العقل العربي غير المستقيل سوى أن المستقبل العربي ممنوع على العرب، ومسموح فقط تحت ظلال الصهيونية والداعم الغربي الإمبريالي لكي يبقى العرب تحت السيطرة إلى قرون من الزمان، وقبيل تحقيق سورية النصر الكامل على الحرب الإرهابية عليها ما زلنا نشهد الخذلان الواضح من الجامعة العربية إزاء الاعتراف بالوقائع الميدانية التي أضحت ملموسة على الأرض حيث لم يبق من الجغرافيا السورية سوى إدلب وشرق الفرات لكي يعودا إلى السيادة للدولة الشرعية، ورغم هذا تصل الأوامر إلى النظام العربي الراهن بأن لا يتعامل مع النصر السوري ووقائع الميدان كحقيقتين معتبرتين في السياسة، ويصبح الحديث عن تشكيل اللجنة الدستورية لمناقشة الدستور قضية أهم من قضايا إنهاء الوجود الإرهابي، واستئصال الإرهاب الذي صار تهديده يطال معظم دول الأرض.
وما سمعناه من ماكرون يظهر حقد الغرب المتصهين على الدولة السورية المنتصرة عبر محور المقاومة وحلفائها، كما يظهر ارتباك التحالف الغربي في صورة الاضطرار للاعتراف بالنصر السوري فنراهم يحركون أردوغان لتنفيذ أحلام العثمانيين، كما يحركون الكرد الانفصاليين، ويؤجلون انسحاب القوات الأميركية من الأراضي السورية، ويخترعون مسائل المنطقة الآمنة، وإيواء الملايين من السوريين وكأن المهجرين السوريين كانوا بلا أرض ومدن قبل أن يرغموا على الهجرة! ويضاف إليه أن الغطرسة هي سيدة الموقف حيث يتحدثون عن الحل السياسي، أو لا حلّ إلا سياسي ويغتصبون إرادة السوريين في الحوار فيما بينهم والوصول إليه فكيف سيقبل السوريون الحل بإدارة أعدائهم، وهل مَنْ سفك دمهم يقنعهم بأنه سيعوّض لهم ما فعله فيهم، هذه هي خدعة الاستعمار لنا منذ قرون خلت، وما زلنا فيها.
د. فايز عز الدين
التاريخ: الاثنين 4-2-2019
الرقم: 16901