كما استطاعت قوى الغرب المتصهينة أن تصمم مسرحية الثورات والربيع العربي، وتحشد لها بادئ ذي بدء قرابة مئة وسبع وثلاثين دولة تحت مسمّى أصدقاء سورية لتصبّ هذه الدول بتحالف غير مقدس طاقاتها الإعلامية، واللوجستية، والعسكرية في خدمة مرتزقة الأرض المعبئين في شركات أمثال: بلاك ووتر، والهدف الكبير الدخول إلى سورية من أربع جهات الأرض، وشنّ الحرب عليها من الداخل بوهم أن الحرب من الداخل أكثر تأثيراً، وتدميراً من حرب الحدود، أو حرب التفجيرات، والاغتيالات بخريطة إجرام تضرب وتهرب. نعم لقد أصبح العدو في الداخل، وقد أمّنوا له الكثافة العددية التي تتناسب مع تعداد الجيش العربي السوري، والقوى الرديفة له، وقد رأينا كيف تم شراء الضمائر بمليارات الدولارات، وكيف سُخّرت الفتاوى لخدمة ما أطلقوا عليه الغرض الجهادي حيث أصبح الزنى جهاد نكاح، وحذفوا من القاموس القرآني معاني هذا الزنى، وعقابه ليتحول إلى صيغة عبادة محلّلة ربانياً طالما أن الغرض الهوائي منه تدمير سورية، فالهوى بالتدمير خدمة للصهيونية هو عقيدة المتأسلمين، وهو الشكل الدولي الصهيوإمبريالي للإسلام الذي خرج عن ربوبيته لرب العالمين ليكون له ربٌّ مثل برنارد ليفي وما شاكله.
وحينما دارت الحرب الإرهابية على سورية باسم الإسلام، والجهاد، وإقامة شريعة الله على الأرض رأينا كيف تعدّدت المشارب، وتنوّعت المجموعات، وكثرت أسماؤها حتى ظهر منها أكثر من مئات التسميات، ولم يكن لها شريعة واحدة موحدة ينتظمها الإسلام الرباني والإيماني، والإنساني الذي نزل على رسول الله، وكان رحمة للعالمين. وفي الشرط الدولي الغربي المتصهين كانت الغاية الكبرى إعادة تشكيل الدول الوطنية في منطقة الشرق الأوسط حتى تصل دول الحزام المحيطة بالكيان الصهيوني إسرائيل إلى الشرذمة المطلوبة جغرافياً، وديمغرافياً، وتُفرض ثقافة التقسيم وإعادة رسم الخرائط عبر دساتير جديدة لا تعترف بالأرض الواحدة للأمة الواحدة، بل ينفخ بروح الأقليات الإثنية، والعرقية لكي تتنافس، وتتعاكس، وتصطرع وكل منها يرفض العقد الاجتماعي، والثقافي والتاريخي الذي شكّل التجانس المعروف اجتماعياً، ومواطنياً، وتعاقدياً. وهنا يفرط التعاضد التاريخي، وتبدأ عناصر تفجير المجتمع بالظهور لتبدأ الحرب الأهلية إن أمكن أو التنافر الإثني، والاجتماعي الذي لا يتوافق على الوحدة الجغرافية على أقل تقدير. هذا هو جوهر الثورات على صعيد الدولة الوطنية العربية، وفي الظروف الدولية المصاحبة كان الانتظار مبهجاً للغرب المتصهين، وهو يراقب الجمهورية العربية تنهار، ويرجع الشعب المعني إلى اللّا دولة حتى تدبَّ الفوضى بين صفوفه ويشتدّ الخلاف على أشكال إعادة بناء الدولة دون عزل عوامل انهيارها عن صيغ تكوينها من جديد أي دون أن تتشكل فيها ضمانات عدم الانهيار من جديد، فالمطلوب صهيونياً سلطات عربية رخوة لا تصل إلى الدولة بصيغتها: القانونية، والسياسية، ولكنها توفّر الانتظام في النموذج الغربي للنظم التابعة الفاقدة لقرار السيادة، والاستقلال لكي تُدار من الخارج تحت شرط المحميّات المعروفة خليجياً، وفي ممالك الرمال. وقد استمر انتظار الغرب ودعمه لمرتزقة الحرب الإرهابية على سورية، وتكثّف الوهم بالانتصار في العام الأول لها وحين دخلت الحرب عامها الرابع صارت الروافع الغربية الصهيونية، والإقليمية تضعف، وتتراجع شيئاً فشيئاً بتأثير موجة الانتصار التي فرضها الجيش العربي السوري وحلفاؤه، واتخذت العلاقات الدولية أشكالاً جديدة في التعامل مع القطب الوحيد المهيمن، وشرع الفيتو الروسي، والصيني في مجلس الأمن يعود للظهور نصرة للقضية السورية العادلة التي تحميها دولة قوية، وجيش له حلفاء أقوياء.
ورغم ما تبدّى من تعاظم في الاشتباك الدولي، وتشابك الخيارات، والمرجعيات في النظر إلى المخارج في الأزمة في سورية، اتضح أنه على هذه الأرض يُعاد إنتاج النموذج الجديد للنظام الدولي لا يقبل بالقطب الوحيد المهيمن على القرار الدولي بل يدعو إلى نظام التعددية القطبية التي تفرضها طبيعة التجاذبات على الأرض السورية، وتوالي انتصارات الجيش، والظهور القوي لجبهة المقاومة التي كسرت مطامع المشروع الأمرو صهيوني، وخذلت الأطراف الإقليمية التي اعتمدت عليها أميركا المتصهينة، واعتقدت بأنها ستكون حصان طروادة الذي يقوّض الدولة السورية الشرعية، ومجتمعها المتجانس المتعاقد تاريخياً، وحضارياً، وثقافياً. وبعد تجاوز السنة الثامنة في الحرب على سورية كانت المجموعات الإرهابية قد هربت من جغرافية واسعة في الغرب السوري، والجنوب، والشرق، ولم يبق منها إلا الذين التجؤوا إلى إدلب أو كانوا في شرق الفرات، وريف حمص الشرقي. وفي هذا التراجع الإرهابي، والانهزام أمام الجيش العربي السوري وحلفائه أخذت معادلات الغرب المتصهين تتغيّر، وطفق الرأي العام الدولي يتحرّك إلى اتجاه الاعتراف بالنصر الكبير للدولة السورية الشرعية على الإرهاب وهذا -بطبيعة الحال- لن يكون له الوقع العادي على الحالة الداخلية لحلف العدوان على سورية حيث صارت النسبة غير العادية من الشعب الأوروبي والأميركي لا تقبل بما كان قد ضلّلها من الميديا الإعلامية لبلادها.
وما فتئت الصورة الواقعية تنجلي لهم أكثر فأكثر بما وصلت معه الأمور إلى شروع الرفض الشعبي لسياسة الطبقة السياسية الأوروبية، وتبدأ الحركات الشعبوية تتحدى في صناديق الاقتراع مخططات، وشخوص الليبرالية الجديد بثوبيها: الماسوني، والصهيوني المرفوضين. وبدت النسبة المجتمعية المؤيدة لكفاح السوريين ضد الإرهاب تنظر إلى هذه الحرب على أنها حرب بالنيابة عنهم، ونتائجها لمصلحتهم القومية، والإنسانية. ومن الطبيعي أن تتحول الأفكار إلى أسلوب عمل، وطرائق في التعبير فكانت الصدمة التي أحدثتها السترات الصفراء في فرنسا معلنة بالصوت العالي عن رفض المجتمع الفرنسي بمفكريه لهذه الصورة من التابعية لأميركا وما ضاع فيها من وجهٍ حُرٍّ لفرنسا الديغولية، والجمهورية الخامسة. وبناء عليه فقد كانت زيارة الوفد الفرنسي المنتظم في إطار ما أُطلق عليه: المنظمة العالمية لدعم سيادة الشعوب إلى سورية ولقاءاته الشعبية مع جماهير المحافظات السورية مثمرة جداً، وقد استقبلهم السيد الرئيس واستمع إليهم وشكر لهم هذا المسعى، وقد كشف الخبير الفرنسي في الشؤون الأمنية إيمانويل لوروا عن رسالة حمّلها له النائب في البرلمان الفرنسي جان لاسال موجهة إلى السيد الرئيس بشار الأسد قال فيها: (لقد قلت لأبناء شعبي في مناسبات عديدة بعدما التقيتكم يا سيادة الرئيس في عام 2017م: يجب أن نشرح للفرنسيين لمن بعنا الأسلحة، ولماذا؟ علماً بأننا نعلم جيداً أن من نبيعهم السلاح هم وراء داعش). وهنا نقف على عتبة مهمة من تذمّر الشعب الأوروبي من السيطرة الصهيوأطلسية على حكوماتهم، وهذا التذمّر أصبح سياسة تحرك الشارع الأوروبي، ويتّسع معها فضاء التحرر الشعبي من أشكال التبعية وتتسع كذلك دائرة المفكّرين، والمثقفين الأوروبيين، وحتى الأميركيين الرافضين لتبعية الحكّام، والراغبين في مناصرة الحق الدولي، والحريات لشعوب الأرض ودولها الوطنية. وهنا نتأكد من تعاظم جبهة الحرية والنضال الوطني المشروع لأمم الأرض التي تعاني من الاحتلال والتدخل في شؤونها الداخلية، وتضيق على الصعيد الجيواستراتيجي الدولي فضاءات الاستعمار مهما اتخذ من أشكال جديدة.
د. فايز عز الدين
التاريخ: الاثنين 11-3-2019
الرقم: 16928