«أمَّهـــــــــات»

لم يكُنَّ على مرِّ الدُّهور والعُصُور، ولا باختلاف الأزمنة والحقب، ولا في ذاكرة الأيَّام، مُذْ عَرَفَتْ البشريَّةُ الذَّكَرَ والأنثى، لم يَكُنَّ مُجَرَّدَ كائنٍ لا دَوْرَ ولا مكانَ ولا مكانة له، فليست أُولَى الأساطير أو الكتب المقدَّسة تلك التي تذكر أمَّنا «حواء»، وليست بآخرِ الجُزُرِ «الأُمَويَّة» للآلهة الرَّبَّة الأنثى المقدسة، بسيِّدتنا «مريم»، أمِّ «يسوع» عليهما السَّلام، وليس آخِراً بآخِرِ امْرَأَةٍ قد تعيشُ على هذه الأرضِ أو ستكون، بل يذكُرُ لنا التَّاريخُ العديداتِ بأحرفٍ من نورٍ، نُقِشَتْ أسماؤُهُنَّ وصُوَرُهُنَّ في متحف الزَّمانِ الخالد..
وبالرُّغمِ من تداوُلِ السُّلْطَة الإلهية، الذُّكورة والأنوثة، الأبِ والأُمِّ، الرَّبِّ والرَّبَّة، الإلهِ والإلَهَة، إلَّا أنَّ الكَفَّةَ كانت تتأرجحُ مُثقَلَةً لصالحِ الذَّكر، ليأتيَ من ثَمَّ الزَّمانُ، بـ «فريدةٍ» تعادلُهُم جميعاً، بل وأكثرَ: إنَّها «تَهُزُّ سريرَ ابنِها بيدٍ، والعرشَ باليدِ الأُخرى!..
يزخر التاريخ والوجدان بالكثير من الأمَّهاتِ ممَّنْ غيَّرْنَ مجرى التَّاريخ، وكانَ لهُنَّ أكبرُ الأدوار في تكوينِ وتنشئة رجالٍ تركوا بصماتِهِم حاضرةً في تاريخ البشريَّة حتى الآن، فلم يقتصر دور الأمِّ على إعداد القادةِ فقط، بل أعدَّت العلماءَ وأنجبتْ المبدعين والمخترعين، والفلاسِفة والعباقرة من رَحِمِ الفقر والمعاناة، وظروف السُّلطة الذُّكورية المطلقة فكان أديسون، وبونابرت، وبيتهوفن، وكان السَّيدُ المسيح، وسيدنا محمد ، كما كانت المضحِّيَة الباذلةَ الفادية المخلِّصة: أمثال «هاجر» زوج النبي إبراهيم، و«أم سيدنا موسى»، والخاتون بنتُ بركة، وإيزابيل الليندي، وماري بونابرت، والخنساءُ «تماضر»، وأما أشهرُ الأمَّهاتِ الكاتبات والشَّاعرات إضافة للخنساء التي أرسلت بأبنائها الأربعة إلى معركة القادسيَّة فاستشهدوا جميعاً، يذكرُ التاريخُ القريب الكاتبة الشهيرة إيزابيل الليندي كواحدةٍ من أشهر الأمَّهات، فقد ظلت جالسة إلى جانب ابنتها التي تحتضر، وكتبت رواية كاملة تحمل اسم صغيرتها روت فيها حكاية العائلة، واسم الرواية «باولا»، والشاعرة الأمريكية الراحلة «سيلفيا بلاث»، التي أصرَّت على أن تطعم طفلتها وطفلها قبل أن تنتحر بدقائق، فكان أن وضعت لهما الفطور وأطعمتهما بنفسها, ثم أخرجتهما لتضع حداً لحياتها الكئيبة، أما الشَّاعرة الرُّوسيَّةُ «مارينا تسفيتاييفا»، والتي عاشت حياة البؤس والفقر والعوز، فقد عملت في غسل الصُّحون، واضطرَّت لوضع ابنتها الوحيدة في ميتم، لأنها لم تتمكن من إطعامها، وكتبت لها مجموعة من أشد القصائد إيلاماً قبل أن تنتحر هي الأخرى من شدة الفقر والحزن.
كما شهد العالم نساءً أمَّهاتٍ تمكنَّ من التأثير في سياساتِ بلادِهِنَّ، بالرغم من انشغالهِنَّ بتربية الأطفال، وقد تركْنَ بصماتهن في الماضي والحاضر، فكانت «كليوباترا» الملكة الفرعونية أمَّاً لأربعة أطفال، في وقت كانت فيه أكثر النساء نفوذًا في التاريخ، وتولَّت الملكةُ «بوديكا» حكم بريطانيا سريعًا بعد وفاة زوجها ووالد طفلتيها، وأصبحت واحدة من أعظم ملكات الحرب، أما «جورج صاند»، واسمها الحقيقي «أمانتين أورو لوسي»، وهي روائية فرنسية، فقد ارتدت ملابس الرجال لفترة، بالرغم من كونها أماً لولدين، واشتهرت بقصصها مع أشهر الملحنين والفنانين، أما «ماري كوري»، عالمة الفيزياء البولندية، فكانت أول سيدة تفوز بجائزة نوبل مرتين، وعُرفت باهتمامها الكبير بطفليها، و«إميلين بانكيرست»، الناشطة السياسية البريطانية، والتي ناضلت من أجل أن تعطى المرأة حق التصويت في الانتخابات، في الوقت الذي كانت تربي فيه خمسة أطفال, ويذكر التاريخ القريب أيضاً أوَّلَ رائدة للفضاء السُّوفييتية «فالنتينا تيريشكوفا»، على أنها أم من مثال آخر في التَّميُّز، نظرًا لأنها أول امرأة تطير للفضاء الخارجي عام 1963، وقد تزوجت «تيريشكوفا» من رائد فضاء آخر وأنجبت منه ابنة، إلى نساءٍ أمَّهاتٍ كسرنَ المألوف وواجَهْنَ السَّائد، وغيرن تيار الحياة ومجرى التاريخ وناموس الخلائق وبرعن وأنجبن عائلات ناجحة، إلى أمهات أنجبن وربين وضحين بفلذات أكبادهن لتحيا الأوطان، أمَّهات الشُّهداء، وقديماً هن حفيدات أمَّهات وآباء المجاهدين والثوار الذين ناضلوا من أجل كرامة بلدانهم واستقلالها، والعديدات ممن بالرغم من انشغالهن في الحياة السياسية، أو الشأن العام، أو الأدب، أو الفنون، أو في جميع مجالات الحياة حتى العسكرية، فقد تركن بصمات خالدات في ذاكرة التاريخ..
إليكنَّ صديقات الحياة، وشموع السَّهر، رفيقات النَّدى، وحاملات الوجع، تاج الصَّبر، السَّكن والسَّكينة، البيت والوطن، المأوى والمَلاذ، سيِّدات الحب العظيم، إليكنَّ، أمَّهاتِنا وردة حب في عيدكن، وعليكن السَّلامُ، ماطلع صباحٌ، وأفَلَتْ شمسٌ، ولكُنَّ الجمالُ ما أشرقَ نجمٌ وطلعَ كوكب، وعليكن إكليلُ غارٍ وياسمين حاضراتٍ غائباتٍ راحلاتٍ باقيات.

ليندا ابراهيم
التاريخ: الجمعة 22-3-2019
الرقم: 16938

 

آخر الأخبار
إعزاز تحيي الذكرى السنوية لاستشهاد القائد عبد القادر الصالح  ولي العهد السعودي في واشنطن.. وترامب يخاطب الرئيس الشرع  أنامل سيدات حلب ترسم قصص النجاح   "تجارة ريف دمشق" تسعى لتعزيز تنافسية قطاع الأدوات الكهربائية آليات تسجيل وشروط قبول محدّثة في امتحانات الشهادة الثانوية العامة  سوريا توقّع مذكرة تفاهم مع "اللجنة الدولية" في لاهاي  إجراء غير مسبوق.. "القرض الحسن" مشروع حكومي لدعم وتمويل زراعة القمح ملتقى سوري أردني لتكنولوجيا المعلومات في دمشق الوزير المصطفى يبحث مع السفير السعودي تطوير التعاون الإعلامي اجتماع سوري أردني لبناني مرتقب في عمّان لبحث الربط الكهربائي القطع الجائر للأشجار.. نزيف بيئي يهدد التوازن الطبيعي سوريا على طريق النمو.. مؤشرات واضحة للتعافي الاقتصادي العلاقات السورية – الصينية.. من حرير القوافل إلى دبلوماسية الإعمار بين الرواية الرسمية والسرديات المضللة.. قراءة في زيارة الوزير الشيباني إلى الصين حملات مستمرة لإزالة البسطات في شوارع حلب وفد روسي تركي سوري في الجنوب.. خطوة نحو استقرار حدودي وسحب الذرائع من تل أبيب مدرسة أبي بكر الرازي بحلب تعود لتصنع المستقبل بلا ترخيص .. ضبط 3 صيدليات مخالفة بالقنيطرة المعارض.. جسر لجذب الاستثمارات الأجنبية ومنصة لترويج المنتج الوطني المضادات الحيوية ومخاطر الاستخدام العشوائي لها