كان يمكنُ لمثلِ هذا اليوم، 13 نيسان من العام1950، أن يكونَ كغيرِهِ منْ سائِرِ الأيَّامِ التي تأتي على الخَلائِقِ وتنقَضِي، لولا أنَّ مَجَرَّتَهُ فقدَتْ أحَدَ أهَمِّ شُمُوسِها على الأرض، وكانَ للأيَّامِ أنْ تُكْمِلَ سِيرتَها الأولى، لو لم يُحْرِقْها ذلكَ الشِّهابُ الذَّاهِبُ إلى قَدَرِهِ، ليَتْرُكَ على خَدِّها أثراً، كشامَةِ حُسْنٍ، علامةً فارِقَةً لها مدَى الأزمَان، ففي مثلِ هذا اليَومِ ضاقَ الجَسَدُ على تلكَ الرُّوحِ الشَّاسِعةِ وهَمَدَ ذلكَ القلبُ المُتَوَثِّبُ لواحِدٍ من كبارِ رجالاتِ سُورية في القرن العشرين إنَّهُ الشَّيخُ صالحُ العَلِيّ…
ولَئِنْ استَحْضَرْتُ شَخصيَّةَ الشَّيخِ صالح، في هذه الأيَّامِ المشهُودَةِ من تاريخِ بلدي سُورية، فَلأنَّنا أحوجُ مانكونُ لاستِلْهَامِ سيرتِهِ ورفاقِهِ المُجاهدين، الذينَ سَطَّرُوا سِفْرَ الجَلاءِ في ملحَمَةِ سُورية الكُبرَى عام 1946، ولَئِنْ اسْتَذْكَرْتُهُ، فإنَّني أستذكِرُ رجلاً امتلَكَ ثقافةَ الوَطَنِ، وثقافَةَ التَّضحية من أجلِهِ، امتلَكَ قوَّةَ هذهِ الثَّقافة، وثقافةَ القُوَّةِ، فاجتَمَعَتا في شَخصِهِ، ليَكُونَ المَاجِدَ الأبِيَّ الأصيل، وليُشَكِّلَ مع أندادِهِ من قاماتِ الوطنِ الطَّاهرة، ظواهِرَ لا يُكَرِّرُها الزَّمانُ، ولا يأتي بمثلِها الدَّهر.
كانَ يُمكِنُ أن يكونَ مُرُورُهُ عابراً في هذه الدُّنيا، يقضِي حياتَهُ يقرأُ القرآنَ، ويكتُبُ الشِّعرَ التَّقليديَّ، يُراجِعُ المخطوطاتِ القديمةَ التي تركَها لهُ أجدادُهُ، إضافةً للعناية بأهلِهِ وأملاكِهِ الواسعةِ، والتي كانت ستكفَلُ له رغَدَ العَيش، ولربَّما كانت لتكُونَ كُبرى مآثرِهِ تحوُّلُهُ لوجيهٍ اجتماعيٍّ بارِزٍ، أو مَرْجِعٍ دينيٍّ، لولا أنَّ الأقدارَ وضعَتْهُ في عَيْنِ العاصِفَةِ، فدخَلَ التَّاريخَ من بابِهِ العريض، بوصفِهِ مُفَجِّرَ أولِ ثورةٍ في وجهِ الاحتلال الفرنسي، ولكَوْنِهِ نجَحَ في مُقارعَةِ هذا المُحْتَلِّ طيلةَ ثلاثِ سنوات ونصف، وكبَّدَهُ خسائرَ هائلةً في الأرواحِ تُعَدُّ بالآلاف، ونَجَحَ في حَشْدِ جيشٍ شعبيٍّ ثائرٍ، وصلَ عديدُهُ في أحيانٍ كثيرةٍ إلى اثني عشر ألفِ مقاتلٍ، وانتصرَ في معاركَ عسكريَّةٍ كبيرةٍ ونجحَ في التَّخطيط لها ببراعة، تفوَّقَتْ على براعة عدوِّهِ، خرِّيجِ الأكاديميَّاتِ العسكريَّة الفرنسيَّة الشَّهيرة.
مولود في قرية «المريقب» التَّابعة لمدينة «الشَّيخ بدر» في محافظة طرطوس، لعائلةٍ عريقةٍ في نسبِها العائِدِ للأميرِ «محمَّد معزِّ الدَّولة»، أحدِ أفرادِ الأسرة الفاطميَّة، وليعتزَّ مدى حياتِهِ بنسبِهِ الفاطِمِيِّ المُحَمَّدِيِّ، لأبٍ هو الشَّيخ «علي سلمان» الذي كان مرجعاً دينياً واجتماعياً، وشاعراً كلاسيكياً، رجلاً براً طاهرَ القلبِ نزيهَ الفِطرة، ولوالدة «حبَّابة علي عيد»، من عائلةٍ رفيعةِ المكانة في محيطها، وليتثقَّفَ «صالحُ العليُّ» الشَّابُّ، بثقافة بيئته، كاتباً الشِّعرَ والمدائحَ والفخر، ولاحقاً مخلداً المعارك التي قام بها، موسِّعاً دائرة معارِفِهِ، بالقراءة والدراسة والمطالعة، والتي فيما بعد خلقت روحاً شفَّافةً رقيقةً مرهفةَ الإحساس والشُّعور، تمتلكُ سريرةً صافيةً، وكبرياءً عنيداً وإحساساً عالياً بالكرامَةِ الشَّخصيَّة، ولتتمَّ مبايعتُهُ دونَ إخوتِهِ، شيخاً وزعيماً ولاحقا قائداً أعلى للثورة ضد الفرنسيين.
محطَّاتٌ في حياته
ولأنَّ المقامَ لايتَّسِعُ للحديثِ في مقالةٍ للإحاطة بشَخصِهِ، ولأنَّ الرَّجُلَ أرحبُ من أن يَصِفَهُ مدادٌ أو تُدْرِكَهُ قريحةٌ، أو تَفِيَهُ أقلامٌ في هذه العُجالة، سأكتفي بشَذَراتٍ من حياتِهِ المشرِقةِ، ومواقِفِهِ النَّاصِعَةِ، وملحمته الكبرى في تاريخ سورية والتي هي غيرُ معروفةٍ ومتداولَةٍ من قبل الجميع:
– يُجْمِعُ عارِفُو الشَّيخ، ودارِسُوهُ، على امتلاكِهِ بُنيَةً جسديَّةً قويةً للغاية، موفورَ الصِّحَّة، قويَّ البنية، يتحدَّثُ بقوَّةٍ وجُرأةٍ وصوتٍ جهوريٍّ، وأنَّ تربيتَهُ الصُّوفيَّةَ الدِّينيَّةَ التي كانت تحضُّهُ على أن يَخْشَوشِنَ، أفادتهُ كثيراً إبَّانَ مقاومتِهِ الاحتلالَ والمعارك الطَّاحنة، فكانَ يصُومُ يومَينِ وربَّما ثلاثة، عن الطعام دون أن يؤثِّرَ ذلك على معنويَّاتِهِ وقيادتِهِ وحُسنِ إدارَتِهِ لدفَّةِ المعارك. وعندما تخلُدُ قواتُ الطَّرفين المتحاربَين إلى الهدوء، كان يلتحِفُ السَّماءَ ويفترِشُ أوراقَ الشَّجَرِ واضعاً تحتَ رأسهِ بندقيَّتَهُ ومنظارَهُ ومسدَّسَهُ.
-كانَ على معرفةٍ ودرايةٍ بكلِّ أنواعِ الأعشاب البريَّةِ وصفاتها وفوائِدِها للعلاجِ، ويصفها للمرضى، وعلى درايةٍ بطبِّ الأعشابِ الذي وَرِثَهُ عن والدته، والتي كان لها دورٌ كبيرٌ لاحقاً في علاجِ المُجاهدين، كان يُرَبِّي دودة القَزِّ والماعزَ ويزرعُ التَّبغَ، كما كان يحرُثُ أرضَهُ بنفسِهِ قبل وأثناء وبعد الثورة، فكانَ مُمْتَلِكاً البيئةَ والجغرافيا والتَّضاريسَ والنَّفسيَّة الاجتماعيَّة لأهالي الجبلِ تجاهَ أيِّ وافِدٍ غريب.
– في الواقع، إنَّ بُرُوزَ اسمِ الشَّيخ «صالح العليِّ» كقائدٍ عسكريٍّ للجبال، لايعودُ إلى وقوفِهِ بوجهِ الزَّحف الفرنسيِّ إلى المشرِقِ فحسب، بل إلى نهايةِ المرحَلَةِ العُثمانيَّةِ، فما انْ أعلنَ الشَّريف حُسَين الثورةَ العربيَّةَ الكبرى، حتى أعلنَ الشيخُ عام 1916 تبنِّيهِ لدعوةِ الثَّورة، وراحَ يواجِهُ كتائِبَ وفلولَ الأتراكِ في الجبل، فكان أوَّلُ صدامٍ حقيقي بينه وبين الأتراك العثمانيين، في قرية «النِّيحا» قضاء «الشَّيخ بدر»، حيث أغارَ على قافلةٍ للجيشِ العثمانيِّ وعادَ مظفَّراً غانماً.
– التقى بالمُجاهِدِ «يوسُف العظمة»، قبيلَ معركة «ميسلون»، في اجتماعٍ للتنسيق بلبنان، ولم يَرَهُ بعدها، إذ كُتِبَتْ له الشَّهادةُ بعد أيَّامٍ قليلةٍ، وبكاهُ الشَّيخُ بدموعٍ حارقةٍ، وبقيَ طيلة أيَّامِ حياته كلما ذكرَ «العظمة» انهمرت دُمُوعُهُ حزناً وفخراً…
– سلَّم «الشَّيخ صالح» نفسَهُ للفرنسيين في 2حزيران 1922 بعد أن صدَرَ العفوُ عنه، وإثرَ تنكيلهِمْ بالأهالي والقرى لكي يسلمُوا الشَّيخ لهم، ولنفاد ذخيرتِهِ وعتادِهِ، وفُرِضَتْ عليه الإقامَةُ الجبريَّةُ في «الشيخ بدر»، وبقيَ هناك حتى وفاته، رافضاً مشاركة الفرنسيين الحكمَ، وزعامةَ دُوَيلةٍ إقليميَّةٍ طائفيَّةٍ، ووُدِّعَ في الحامية الفرنسيَّة كأحد القادة العسكريين الكبار، واستقبلته الجموعُ الزَّاحفةُ الثَّائرةُ كما يليقُ بالأبطالِ الثَّائرين، راداً على عرضِ المناصِبِ والخِدماتِ الخاصَّة والأموال ببيتين من الشِّعرِ ارتجلهما في حضرة الضابط الفرنسي:
اترُكُوني في قريَتي لا يَرَاني.. أحدٌ طالباً ولا مَطْلُوبا
أعبُدُ اللهَ في الجبالِ بعيداً.. عن حُطَامٍ يجني عليَّ الذُّنُوبا
-تُجمِعُ المصادرُ على أن الشَّيخَ اختارَ العزلة الشَّديدة، وزادَ من فَرْضِها على نفسه، وحيداً بين كتبه وأشعاره ومطالعاتِه زاهداً في الدنيا.
– لاحقاً، وقُبَيلَ وفاتِهِ بسنواتٍ قليلةٍ، وحينما جاءتْهُ أخبارُ القصفِ الفرنسيِّ للمجلسِ النِّيابيِّ السُّوريِّ 29 أيار 1945، وجَّهَ برقيَّةً ناريَّةً إلى رئيس الجمهورية:»سيوفُ المجاهدين تتململُ في الأغماد، ونفوسُهُم في غليانٍ واضطراب، لا يتقبَّلُ امتهانَ الأمَّةِ ولا أن تحرِمَهُ حرمةَ الاستقلال، إنا للمعتدين بالمرصاد، وسيعلمُ الظَّالمُونَ أيَّ منقلَبٍ ينقلبُون»
-دُعِيَ للاحتفالِ بعيدِ الجلاءِ الأوَّلِ 1946، وألقى كلمةَ الاستقلال، داعياً إلى الجهادِ الأكبرِ، بعد الانتهاءِ منَ الجهادِ الأصغَرِ مَمْنوحاً وسامَ الاستحقاق.
-مما يُؤثَرُ عنهُ، أنَّهُ قبيلَ المعركة، كانَ يُصَرِّحُ بأنَّهُ سيقتُلُ مائة جنديٍّ فرنسيٍّ، فيعرفُ رفاقُهُ بداهةً أنَّهُ يحمِلُ مائة طلقةٍ في جُعبتِهِ فقط.
-رحلَ الشَّيخُ مدثراً بعباءة النصر والفخر والخلود، تاركاً وصيَّةً رصدَ فيها القسمَ الأكبرَ من أملاكِهِ وثروتِهِ لبناءِ مدرسَةٍ ومَسْجِدٍ ومُستَوصَف…
ليندا ابراهيم
التاريخ: الجمعة 12-4-2019
الرقم: 16955