أشرقت عليَّ ساعة العصر كضوء صبح غمرته أشعة الشمس، وأنا ألتقي في قاعة مركز ثقافي تجمع الوافدين، حشداً لوجوه شابة، صبوحة كنسمة فجر، تحمل خيوط حياة تمنح الرائي البهجة والسعادة، تراه عنوان محاضرتي (الشباب وآفاق المستقبل).
وفدوا رغم ضيق وعسرة الأيام التي نحتت بوطأة الحصار الصهيوأميركي أخاديدها المتوالية على وجهِ جلمودِ صخرِ وطننا الغالي، محاولة إحكام حبل المسد المنزوع من عنق زوج أبي لهب على أعناقنا، فنعلي الصوت تبت يدا ترامب ونتنياهو وتب.
كيف لك أن تكون وأنت ترى ذاتك حفنة رمل تستقر في ساعة رملية، تتقطر حبة حبة عبر ميزابها الرفيع الواصل بين حضنيها، هل شعرت بقسوة سنوات الحرب القاتمة تلفها العتمة وهي تحترق بنارها، مصدرة رائحة الموت التي لم تلغها كل أنغام النايات المشبعة بأنفاس العازفين، تنازع الإرهابيين بين الشهوة والجهل؟.
سنوات تساقطت من أعمارنا كريش نوارس بحر عصفت الريح بأجنحتها محاولة تكسيرها، فهوت على المراكب، حتى تلك التي عانقت ضفاف محيطاتٍ ضاع منها التفاؤل والأمل، تضاءلت وضاقت، أصبحت ساقيةً للأحلام الحزينة، جراء شذوذٍ أخلاقي هوى في أنفاق إيديولوجيا أصمتت بكاءنا قسراً، فارتمى نحو الداخل علقماً.
أجفان صرع لآلئها الألم تحت لحاف سابغ، حرقها وهي تحاول التحرر من سجنها بين الأهداب حزناً على وطن كان يوماً مرتع الياسمين، يتراقص كأهازيج العذارى في عرس صبية، أو دبكة على لحن أغنية صداحة، في عيد وطني يضم حلم الأيام المحمول على نسمات الوقت المعشق بحبات الرمل القرمزية الحاضنة لدم الأبناء.
حبيبات رمل ترتحل من حوجلة لأخرى في ساعة الرمل الروحية، لكنها لن تفلت كما أفلت المغادرون من ساح الوطن، إلى مجهول أخذهم حيث الندم، والحنين يوقظ فيهم ذواكر حطت رحالها في سفن رست على شواطئ غيابات تصارع النسيان، تمنى فيه الغريب لو كان استيقظ قبل الارتماء في أحضان أسطورة الحياة الأفضل.
بلاد الغير، حيث لا إمكان لتسديد فواتير؛ تعاظمت نتائجها المسفوحة على بلاط المخادعين، فهدرت الكرامة في لحظة غفلة ولدت في زمن اللامبالاة، والأفاعي تحيق من كل جانب تتباكى عليهم، تغير جلدها كتغير مناخاتنا في زمن الحرب.
آلامها تيبست كما خطوات السائرين على ضفاف الرئتين تضيِّق عليها أنفاسها. والسراب يرسم بحيرات تأخذهم إلى سراب آخر، حتى لتظن نور عينيك تاه بعيداً في اللاحدود، حيث يزرع التضليل بين أثلام خصوصيات الوطن ليطفئ أنواره.
شباب يرسم تاريخ وطن، كَتَبَ نصفه الشهداء بعطر دمائهم ومداد أرواحهم، ونصفه الآخر يكتبه هؤلاء الثابتون الصامدون. متحدين حصار القهر في قوت الحياة وفقد أركان الحركة على ساح الوطن، سيناريو مجبول بالكراهية في محاولة كسر الصمود.
جهل عدونا فاضح سيء التقدير في ارتداد الصدى، ضعيف في رسم مدارات النخيل الباسق حيث ثقافة وهوية مجتمعنا، همه إشعال نيران الصراعات والحروب، رافضاً الآخر، لم تعلّمه دروس طرده من أرضنا، أننا أحرار حين الأجداد مجدوا الاستقلال..
شباب عاهد على حب الوطن والثبات على أرضه يحتاج بعضاً من الرعاية الرسمية لتعزيز الإبداع والاختراع والتطوير، بالإكثار من مختبرات البحث العلمي ومراكز الدراسات التي تعنى بهوية المجتمع، وثقافات تقاوم النمطية وتعزز التنوع والتلاقح.
شباب يستعيد أحلامه المغتالة، كنهه رسالة، وعيونه رسل إشعاع وتنوير. يترك الرمل في ساعته هادئاً يتحدر بتؤده المعهود، بينا هو يحث خطاه مقتسماً إياها بين إعمار البلاد، والتطلع نحو الجولان المحتل متأهباً للحظة الانطلاق نحو التحرير.
الذاكرة ممتدة بين الآباء والأبناء، البطيحة مسعدة.. والأخريات يتعشق عطر ترابها أرواحهم تنادي هيا.. وخرائط العودة في عيونهم تلبي الندا.. معاصر الزيتون تناشد أشجاره في الأرض المحتلة، لتنمحق سني الغربة الطويلة ويعود الحق لأصحابه.
كم ستفرح ساعتنا الرملية عندما نملأها من رمل الأرض المحررة، معلنة هو ذا الحلم يتحقق، ولن يمر الرمل بين أصابعنا إلا ليحط في أحضان الوديان، في عبثية باسمة، تنشد السمو والقوة في ذكرى الجلاء، لترفو ثنايا قروح تعبت من أنات الألم، ويكون التحرير لكامل الأرض السورية من كل دنس.. ويكون عيد الاستقلال التام.
شهناز فاكوش
التاريخ: الخميس 18-4-2019
رقم العدد : 16960